مظاهر الإبداع والتجديد في الفكر المقاصدي عند الدكتور أحمد الريسوني
قئة المقال: | دراسات وأبحاث |
---|
د. عبد الله الجباري: باحث في الدراسات الإسلامية – خريج جامعة محمد الخامس – المغرب
ظهرت البواكير الأولى للفكر المقاصدي الإسلامي مع الصحابة الكرام، وعرف تطورا ملحوظا مع علماء الإسلام على مر العصور، ولمعت في هذا الباب منارات كبرى، وعلماء بارزين، مثل القفال الكبير والجويني والغزالي والعز بن عبد السلام وابن القيم وغيرهم من الأعلام، إلا أن الفكر المقاصدي لم يصل درجة النضج والتبلور إلا مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي، الذي أفاد مما راكمه السابقون، وأضاف إليه ما أداه إليه الاجتهاد والنظر، وأفرده في قسم لطيف من كتابه الشهير الموسوم بـالموافقات، وبعدها عرف تراثه ذبولا وتراجعا، ومعه بالضرورة، تراجعت المقاصد الشرعية وضمرت، إلى أن اكتشف علماء تونس الشاطبيَ وتراثه، قال العلامة ابن باديس رحمه الله عن الموافقات : “ولقد كنا أيام الطلب بجامع الزيتونة- عمره الله- نسمع من شيوخنا كلهم، الثناء العاطر على هذا الكتاب وصاحبه، وكانت له عندهم منزلة عظيمة. وأحسنُ الدروس في المناظرات الامتحانية، هو الذي رصّعه صاحبه بكلام الشاطبي، وأحسَنَ فهمَه وتنزيلَه”[1]. ولعل هذه البيئة هي التي دلّت طلبة هذه المرحلة على الإمام الشاطبي وعرّفتهم عليه، فأنتجت ابنَ باديس، والعلامة محمدا الخضر حسين الذي كان يصف الشاطبي بـ”مُوَضح أسرار الشريعة”[2]، والعلامةَ الطاهر ابن عاشور الذي استأنف وواصل ما بناه الشاطبي مع إضافة نوعية مهمة[3]، وبعده انطلقت المسيرة مع علماء وباحثين، مثل العلامة علال الفاسي رحمه الله، وأستاذنا الدكتور أحمد الريسوني، الذي نحاول مقاربة موضوعة المقاصد من خلال فكره واجتهاده وتميزه.
فما هي أهم مؤشرات الإبداع والتجديد في مقاصد الشريعة عند الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني ؟
يعد العلامة الدكتور أحمد الريسوني من أشهر المشتغلين بمقاصد الشريعة والمتخصصين في مباحثها، دراسةً وتدريساً، محاضرةً وتأليفاً، وله في ذلك خصائص ومميزات، أهمها اقتحام عقبة الاجتهاد والتجديد، دون الاكتفاء بما قاله السابقون، ترديدا لصداهم، وتكريرا لمقولاتهم.
ويمكن رصد أهم معالم الإبداع والتجديد في الكتابة المقاصدية للدكتور أحمد الريسوني من خلال ما يمكن تسميته بالاجتهاد في المقاصد، والاجتهاد بالمقاصد.
أولا : الإبداع والاجتهاد في المقاصد
أ – الإبداع والاجتهاد في الكشف عن كليات الشريعة :
تناول الدكتور أحمد الريسوني دراساته وأبحاثه المقاصدية، وفق منهجية الترقي، فترقّى من الجزء إلى الكل، أو بعبارة أدق، من الفرع إلى الأصل، ثم إلى أصْل الأصول. وبيان ذلك، أنه قارب المقاصد من خلل متن الشاطبي أولا، ثم ترقى إلى دراسة المقاصد من خلال متن العلوم الإسلامية كلها ثانيا، ثم ترقى أكثر، فاعتصم واستعصم بأصل الأصول ثالثا، فولّى وجهه شطر القرآن الكريم، وغاص في بحاره، مستكشفا ما به من الدر المصان بالصدف، فاستنبط واستخرج الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، وهو ما لم يفرده السابقون بكتاب نضيد ، أو مصنّف رثيد.
سبق للدكتور طه جابر العلواني رحمه الله، أن أثار مسألة غاية في الأهمية، وهي ما أطلق عليها كثرة الاختلالات والانقلابات في القيم والأولويات، وسرد جملة منها على سبيل التمثيل، وذكر ضمنها طغيان الجزئيات، ونسيان الكليات[4]، وبيّن “أهمية الاعتماد على الكليات التشريعية وتحكيمها في فهم النصوص الجزئية وتوجيهها”[5]، لأن رد الجزئيات إلى الكليات، مثل رد المتشابهات إلى المحكمات، لا يمكن الاستغناء عنه في “منهاج فهم نصوص الشريعة”. ونظرا لأهمية الكليات، فإن الدكتور العلواني وضعها في قلب عملية الإصلاح، وأن الوسيلة الأهم والأولى لإصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين، هي “نقل العقل المسلم من الانشغال بالجزئيات إلى الكليات”[6].
تعليقات