حوار – عزيز بنصباحو: كورونا فيروس المستجد وضرورة إعادة توجيه العرض والطلب في الاقتصاد الوطني
قئة المقال: | حوارات |
---|
حوار – عزيز بنصباحو: كورونا فيروس المستجد وضرورة إعادة توجيه العرض والطلب في الاقتصاد الوطني
أ. د. عزيز بنصباحو:
أستاذ الاقتصاد بجامعة ابن طفيل- المغرب
عضو المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات
حاوره: د. زكرياء السرتي
يرى الدكتور عزيز بنصباحو “أن ما يحدث في العالم بسبب انتشار فيروس كورونا التاجي، وما سيأتي من بعد هو بمثابة انقلاب جذري وتحول عميق في كثير من النماذج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية. بنيت هذه النماذج على مسلمات دامت لعقود وكأنها النمط الوحيد للتفكير والفعل. أدت في كثير من الدول إلى أزمات تجلت في الظلم والتهميش والاستغلال لخيرات الكون من طرف قلة من الفاعلين، وخراب بالعمران والاجتماع وشقاء النسبة الأكثر من الإنسان والإنسانية.”
ويضيف “أن حالة المغرب لا تخرج عن هذا النطاق. أزمة فيروس كورونا المستجد لم تكن سوى تلك القشة التي قسمت ظهر البعير. بعد اعتراف رسمي بفشل النماذج التي اتبعت والكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها. جاءت كورونا لتعري عما كان لا يزال مستورا. فالاقتصاد المغربي كان ينزف منذ زمن، والأزمة الراهنة أدت فقط إلى رفع وتيرة النزيف. وهذا ما يفرض على واضعي السياسات الاقتصادية والمالية بالبلد الاستجابة لتحديات جمة تتطلب الجرأة وحس المسؤولية لمواجهتها والخروج بالبلد إلى بر السلام.”
نتبين عبر هذا الحوار العلمي تأثير هذه الأزمة على الاقتصاد المغربي من خلال العرض والطلب وتمويل الاقتصاد، ونطرح البدائل الممكنة، ثم دور لدولة كفاعل أساسي وكواضع للاستراتيجيات من أجل تجاوز المرحلة واستشراف مستقبل أفضل للبلد.
ما هو تأثير كورونا على العرض والطلب في الاقتصاد المغربي؟
قد يتعرض أي اقتصاد لأزمة عرض أو أزمة طلب أو لكلتيهما. ويتباين الـتأثير حسب صلابة مكونات العرض ومكونات الطلب لكل اقتصاد، ومدى انفتاح هذا الاقتصاد على الخارج وتأثره بهذا الانفتاح. فكلما كانت مكونات العرض والطلب متنوعة وصلبة كان امتصاص الأزمات في المتناول. وكلما كان الانفتاح على الخارج متحكم فيه كان التـأثير أقل ضررا. والعكس كذلك صحيح.
من الواضح أن الأزمة الناتجة عن انتشار كورونا قد ضربت في العمق العرض والطلب في لاقتصاد المغربي. إذ أدى تجميد عدد كبير من الأنشطة بسبب حالة الطوارئ، أو صعوبة الحصول على المدخلات الصناعية المستوردة من الدول المتضررة، إلى تعطيل الماكينة الانتاجية سواء تعلق الأمر بإنتاج السلع الموجهة للسوق الداخلية أو تلك الموجهة للتصدير. إذ فقط 43% من إجمالي المقاولات استطاعت أن تستمر في الإنتاج وثلث المقاولات فقط استمرت في الإنتاج من أجل التصدير، حسب المندوبية السامية للتخطيط.
قطاعيا بينت هذه الأزمة أن الاعتماد على السياحة الخارجية ومشاريع الاستثمارات على شاكلة المناولة كقطاع السيارات الذي توقف بالكامل والموجهة للسوق الأوروبية على الخصوص، كاستراتيجية لتحريك الاقتصاد الوطني قد كان اختيارا فاشلا. ذلك أن جل هذه القطاعات وبمجرد ضهور أزمة كورونا حتى أصبحت هي الأخرى في أزمة خانقة.
أما على مستوى الطلب، خاصة الطلب الداخلي على الاستهلاك والذي يعتبر من أهم مقومات الاقتصاد المغربي ومن أهم مكونات الطلب الكلي، يتوقع أن ينخفض استهلاك الاسر بنسبة 2,1%، خلال الفصل الثاني من 2020 وذلك بسبب تراجع النفقات المتعلقة بالنقل وبالمواد المصنعة وبخدمات الفندقة والترفيه. وقد يفاقم هذا الانخفاض فقدان عدد من اليد العاملة لأجورها بسبب توقف بعض الأنشطة من إنتاج وتوزيع. إذ ما يفوق 5 مليون أسرة استفادت من الدعم سواء من الصندوق الذي أحدث أو عن طريق صندوق الضمان الاجتماعي. ناهيك عن الذين طلبوا الدعم ولم يستفيدوا منه. وبالتالي فمجموع المواطنين الذين تضرروا من الجائحة واحتاجوا للإعانات قد يفوق 20 مليون محتاج.
كما تبين معطيات المندوبية السامية هول هذه الأزمة، بحيث أن ثلــث الأسر تقريبــا لم تعد تتوفر عــلى أي مصـدر للدخـل. وتلجـأ 14 % من الأسر إلى الاسـتدانة مـن أجـل تمويل نفقاتهـم خـلال هـذه الفـترة. و49% من بين الأسر التي توقف أحد أفراد العائلة عن العمل، فقط 40% منهم توصل بإعانات من الدولة أو المشغل. و9 % في المائة من الأسر الذي فقد أحد أعضائها العمل لم يتوصلوا بأي إعانة. وقد يزيد من ضعف الطلب الداخلي على الاستهلاك الانخفاض الهائل في تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج والذي قدر7% والتي عليها بعض العائلات المغاربة في طلبها الاستهلاكي.
أما تراجع الطلب الخارجي فمرده إلى أزمة الشركاء الأوروبيين خاصة فرنسا وإسبانا. إذ تحتل السوق الأوروبية ما يزيد على 65% من صادرات المغرب. وقد توقعت المندوبية السامية للتخطيط تراجع الطلب الخارجي الموجه للمغرب بنسبة %12,6 خلال الفصل الثاني من هذه السنة.
أمّا على مستوى الاستثمار، فحالة الحذر والترقب وغياب الرؤية في المستقبل قد أثرت سلبا على مستوى ضخ أي أموال في مشروعات أو استثمارات جديدة من جهة، وانخفاض في المخزونات لدى الشركات من جهة ثانية.
ولهذه الأسباب ومن مخرجات أزمتي العرض والطلب من المنتظر أن يعرف نمو الناتج الداخلي الخام لهذه السنة نسبة سالبة تقدر ب 3,2%. والإجراءات التي اتخذت من طرف الدولة لا يمكنها إلا أن تخفف من هول الكارثة وعلى المدى القريب فقط. لذلك ومن أجل بناء نظام اقتصادي أكثر مقاومة وتوازنا وجب التركيز على إعادة توجيه العرض والطلب بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن بالدرجة الأولى.
في أي اتجاه تتجلى ضرورة إعادة توجيه العرض والطلب في الاقتصاد؟
فيما يتعلق بالعرض: المطلوب هو تنويعه من أجل الاكتفاء الذاتي
لأنه وعلى الرغم من أهمية الحلول الآنية التي طبقت من إعانات مباشرة وغير مباشرة، فإن الحلول الاستراتيجية نظراً لديمومتها ولأثرها البعيد والعميق، تبقى هي الأهم.
فمن الملاحظ أن القطاعات التي ازدهرت على المستوى العالمي، وزاد الطلب عليها خلال الأزمة الحالية، قطاع الصناعات الدوائية والعلاجية، الصناعات الغذائية، صناعة منتجات النظافة الشخصية والتطهير، تجارة التجزئة، قطاع أنظمة المعلومات والاتصالات والتجارة الإلكترونية. ونظرا لأهمية القطاع الفلاحي في تأمين الغّذاء، فإن الاستثمار في مثل هذه القطاعات كلها يعتبر من الأولويات لما تتميز به من حساسية أقل لتقلبات السوق وقدرتها على تلبية الحاجيات الأساسية للمواطن وبشكل مباشر. كما اثبت العزلة الدولية مكانة الاقتصاد الافتراضي أو الرقمنة، وبالتالي فهي فرصة للبدء في الاعتماد على المنصات الإلكترونية والتقنيات الجديدة لتطوير الخدمات المرتبطة بالتعليم والرعاية الصحية والحكامة الإلكترونية.
في هذا الاتجاه يعتبر تنويع العرض الإنتاجي في الاقتصاد بمثابة صمام الأمان أمام الأزمات العالمية، إذ من شأن هذا الاختيار تأمين الاكتفاء الذاتي للبلد من السلع والمنتجات الأساسية وحماية السوق الداخلية من شح هذه المنتجات.
فيما يتعلق بالطلب: يجب توجيهه نحو السوق الداخلية
يعتبر الطلب كمحرك أساسي للاقتصاد. لكن لا يمكنه لعب هذا الدور لصالح الاقتصاد المحلي إلا إذا تميز بالاستدامة فيما يخص الطلب على الاستهلاك والنجاعة في الطلب على الاستثمار. أي يجب من جهة توفير دخول معتبرة ومؤمنة لساكنة البلد. ومن جهة أخرى أن يكون هذا الطلب موجه نحو السوق المحلية.. يتطلب ذلك الحفاض على الوظائف المنتجة للدخول المستدامة وعدم تعريض الفئات المجتمعية للبطالة عن طريق العمل على استقرار الوظائف بالتوسع في التوظيف العمومي خاصة في القطاعات المنكوبة كالتعليم والتكوين والبحث العلمي والصحة، وبفتح المجال أمام الطاقات الشبابية المعطلة في إطار بلورة مشاريع بمواكبة الدولة تمويلا وتأطيرا ومتابعة.
تؤكد صواب هذا التوجه التغييرات التي أحدثت في مكونات الطلب انكفاء الدول على نفسها سيعيد الاعتبار للطلب الداخلي الموجه نحو المنتوج الوطني في مقابل إضعاف الطلب الخارجي نتيجة القيود الحمائية التي بدأت تنهجها عدد من الدول.
وقد يساعد على تشجيع استهلاك المنتوج المحلي الدور الذي يمكن للمجتمع المدني أن يقوم به في تأطير الساكنة على عادات الإنفاق التي تستدعي ترشيد النفقات على المواد مرتفعة الاسعار والسلع التكميلية المستوردة خاصة.
من جانب الطلب على الاستثمار العمومي بينت الأزمة أنه لا بد من التحول من إنفاق الأموال والخيرات الضخمة في مجالات العلم والبحث العلمي وفي مجال التنظيم وإدارة الشأن العام بدل انفاقها في قطاعات لا تمس إلا الفئة القليلة من الساكنة.
ما هي مقترحاتكم بشأن تمويل الاقتصاد ما بعد الجائحة؟
لن يكون تمويل الاقتصاد المغربي أحسن وضعا مما كان عليه من قبل. فأمام صعوبة الاعتماد على المداخل الضريبية بسبب الوضعية المالية للمقاولات والأفراد ووضعية الموازنة العامة وبما أن الحصول على التمويلات الخارجية أصبح أكثر صعوبة مع توقف الاستثمارات الخارجية المباشرة، وتجميد الصادرات وضعف المنافسة التي تعرفها، وتوقف أو تراجع تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، وأزمة القطاع السياحي، يبرز دور التمويل في تزويد المجتمع والاقتصاد من الفائض لتأمين الاستثمارات الدافعة في اتجاه تقوية وتنويع وتجويد العرض الإنتاجي.
وبما أن المنظومة المصرفية المغربية قد أثبتت محدوديتها بعدم الانخراط المسؤول في عملية تمويل الاقتصاد الحقيقي وانزواءها في مجال الربح السريع وعدم المغامرة في تمويل أنشطة متنوعة، فإن فقح باب المنافسة الحقيقية يعتبر من أهم الحلول لهذه المعضلة حتى يتسنى للمشروعات الصغيرة والمتوسطة العاملة في المجالات التي تأثرت كثيرا بفعل الأزمة من إمكانية تمويل أنشطتها.
كما تعتبر هذه الأزمة فرصة لتعبئة الادخار الوطني وتنويعه بتفعيل مؤسسة الزكاة والأوقاف وتوجيهها لخدمة القطاعات الحيوية في الاقتصاد الوطني.
في المقابل يعتبر التمادي في الاستدانة من الخارج من أخطر الحلول وذلك لاحتمال عدم القدرة على السداد ورهن مستقبل الأجيال المقبلة، لاسيما وأنه من المحتمل مع هذه الجائحة أن يزداد الطلب على التمويل الخارجي من طرف الدول المتضررة[1] مما ينبأ عن ارتفاع في نسبة خدمة الدين.
ما الدور الذي أصبح على الدولة أن تلعبه بعد الجائحة؟
يتوقف حجم الضرر الاقتصادي واستمراره أو تكراره عند كل أزمة في المستقبل بشكل أساسي على كيفية تعامل الدولة مع هذه الأزمة وكذلك الاستراتيجيات التي ستتمخض عنها. طبيعة هذه الأزمة تفرض إعادة صياغة دور الدولة وإعادة ترتيب الأولويات. إذ سيتطلب من الدولة أن تلعب دور الفاعل الأساس في بنية الاقتصاد في مرحلة ما بعد الأزمة، فنظام ما بعد الجائحة سيشهد مزيدا من الانكفاء الذاتي، وعودة الحواجز التجارية والضوابط المالية والتركيز على الاقتصادات الوطنية.
أصبح على الدولة المغربية ضرورة توظيف دورها الاستراتيجي لمواجهة مخلفات الانكماش المنتظر، خاصة أنه يصاحب هذه السنة موسم جفاف سيقلص من الإنتاج الفلاحي وبالتالي سيأثر سلبا على الناتج الداخلي الخام. كما يفرض عليها مستقبلا الاهتمام بقضايا حماية الذات والصحة والبيئة، وقضايا التوزيع والعدالة الاجتماعية والتكافؤ، إضافة إلى التكنولوجيا الجديدة والبحث العلمي.
ما هي أهم الخلاصات التي يتعين أخذها بعين الاعتبار؟
تعرض الاقتصاد الوطني بسبب جائحة كورونا المستجد لزلزال عنيف سواء على مستوى العرض أو على مستوى الطلب. وكانت هذه الهزة أكثر عنفا نظرا لأن كلاهما مبني على غير أساس رصين. عرض مبني على فقر في تنوع المخرجات وضعف في الجودة وهشاشة عدد كبير من الأنشطة الاقتصادية. وطلب مؤسس على طلب داخلي ضعيف لارتباط ضآلة الدخول بتلك الأنشطة وبمديونية دائمة. وطلب خارجي غير مضمون لشدة ارتباطه بالوضعية الاقتصادية للشركاء الأوروبيين.
فعلينا إذن أن نتذكر دوما بأن الأزمة هي أيضا فرصة للتغيير وأن عيوب نمط الاقتصادي الحالي تـؤكد وجوب تغيير في العمق لكثير من المحددات المتعلقة بالعرض والطلب. يعزز هذا الطرح ما انتهجته مجموعة من الدول في تعاملها مع باقي الدول تلك المتمثلة في قيام الدول التي تخصصت بإنتاج وتصدير الحبوب والأغذية ومستلزمات الحماية الطبية بوضع قيود على تصديرها كما فعلت مؤخرا أوكرانيا وروسيا وفيتنام على صعيد الأغذية والولايات المتحدة وألمانيا ودول أخرى على صعيد المنتجات الطبية.
تعليقات