ندوة دولية في فكر الإمام عبد السلام ياسين بجامعة القيروان
قئة المقال: | تقارير |
---|
عقد مخبر بحث تجديد مناهج البحث والبيداغوجيا في الإنسانيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القيروان-تونس اليوم السبت 23 فبراير 2019 ندوة علمية دولية دارت مضامينها حول أعمال العلاّمة الراحل عبد السلام ياسين، شارك فيها كلّ من الدكتور أحمد الفراك (جامعة عبد المالك السعدي-المغرب) والدكتور الأسعد العياري (جامعة القيروان-تونس) ونشّط الجلسة الدكتور محمد الصادق بوعلاقي (جامعة سوسة-تونس)، وبحضور فضيلة الدكتور الحمادي المسعودي رئيس جامعة القيروان. وقد تم بثّ فعاليات هذا اللقاء بثا مباشرة على صفحة مركز ضياء للمؤتمرات والأبحاث.
قدّم الدكتور أحمد الفرّاك محاضرة عنوانها “العقلانية في فكر عبد السلام ياسين”، عرج فيها على قراءة في سيرة المفكر والمربي المغاربي عبد السلام ياسين وخصائص فكره المنهاجي، قبل أن ينتقل إلى صلب موضوع العقل والعقلانية في كتابات الرجل الغزيرة.
وقد بين الفراك مدى استطاعة الأستاذ ياسين من خلال موسوعته الغنية “سراج”، وبموسوعيته المعرفية وعُدته المنهاجية ووعيه العميق بمعطيات الواقع وإكراهاته أن يقدم للمسلمين وللعالمين نظرية في التغيير؛ تغيير الإنسان وتغيير الأوطان، تحمل رؤية فلسفية كُلية ودقيقة في نفس الوقت، تخاطب في الإنسان الفطرة والقلب والعقل في انسجام وتكامل، لتستنهض فيه هِمته وضميره ليعالج غفلته ونسيانه وطغيانه، وليعرف قضيته في الحياة وينتبه إلى مصيره ورسالته في الوجود. وهي نظرية في تذكير الكائن البشري العاقل بمعناه، تنطلق من التركيز على إنسانية الإنسان واستخلافه إلى قوانين الكون ونواميسه، ومن طبائع الحياة ومقاصد الكينونة فيها، إلى إرادة الآخرة وحرث الفلاح فيها.
كما بين الباحث رفض عبد السلام ياسين للاستبداد والفساد، وكشف أوهام الحداثة المزيفة، ودفاعه عن الفطرة ونُصرة القيم الأخلاقية الجامعة؛ قيم الحق والخير والجمال، داعيا إلى ترسيخ مواطنة تشاركية حقيقية تؤمن بأولوية القيم الجامعة ومرجعيتها في ضمان الحقوق وفرض الواجبات وتنظيم العلاقات أفقيا وعموديا، داخل الدولة الوطنية ومع العالم بأديانه ومذاهبه وأنظمته ومصالحه.
وبيّن الباحث دعوة عبد السلام ياسين إلى حفظ كرامة الإنسان وصونها من التنويم والتذويب بلغة لوي ألتوسير، عبر البحث عن المشترك الإنساني وتنميته والعمل بمقتضاه، وضرورة الانفتاح على هذا الغير والتعاون معه في إطار القواسم المشتركة الكبرى من أجل بناء حضارة العمران الأخوي التي تستوعب الجميع في أخوة إنسانية متعايشة متضامنة.
للأستاذ ياسين حديثٌ طويل -وفي أغلب مؤلفاته- عن العقل والعقلانية، وعن علاقة العقل بالوحي، وعلاقة العقل بالقلب، وعلاقة العقل بالإيمان، وعلاقة العقل بالواقع، وقد أفرد للموضوع كتابا وسمه بـ”محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى”، وينتبه قارئ كتابات الأستاذ إلى “مسألة أساسية غَفلت عنها جل الكتابات الفكرية المعاصرة التي تتحدث في قضايا المسلمين الفكرية قديما وحديثا من داخل المرجعية الإسلامية، ألا وهي ضرورة استصلاح الجهاز المفاهيمي الذي به نُعبر عن الأفكار والمواقف والاجتهادات، ومن خلاله تتشكل الرؤية المنهجية للحياة”. لذلك تجده يُرجع النظر في كثير من المفاهيم والقضايا التي اتخذت دلالات تاريخية حالت بينها وبين دلالاتها الأصلية، ومن تلك المفاهيم جدد النظر في مفهوم العقل.
ليس العقل في نظر ياسين “أداة تفكير مجردة”كما نُقل عن أرسطو في كتابيه الموسومين بــ”في النفس” و”البرهان”، ولا هو “جوهر قائم بذاته”كما يراه رينه ديكارت في تأملاته، بل هو عقلٌ كادح في الأرض “مشاركٌ في علوم الكون وحصائل التجربة البشرية دون أن يطعنَ الحاصلُ البشري في الـمُتلَقَّى من الوحي”، فهو في اللغة فعلٌ من الأفعال أو صفة من صفات الإدراك عند الإنسان، وليس مشتركا بين جميع الناس بإطلاق، وإنما “الناس كما فطرهم الله عز وجل متفاوتون في العقل والطبع والقدرات”.
وبناء عليه يميز بين عقلين اثنين، عقل يسميه بـ”العقل المعاشي”، وهو العقل “المدبِّر للشؤون الحياتية”، أي العقل الذي يدرك العلاقات القائمة بين الأشياء، و”عقل مؤمن” هو العقل الذي يتخذ من الوحي مرجعا له، أي “العقل الذي مجَّده الله تعالى في القرآن، وهو فعل القلب المؤمن بالله وبالآخرة وبالنبوة وبالشريعة”، ويميز ياسين بين مفهوم العقل في القرآن وبين مفهومه في التاريخ، فينتصر للغة القرآن ويقول: “العقل في القرآن فعلُ حاسة باطنة في الإنسان تُسمى القلب. العقل تلقٍّ لحقائق الوحي بواسطة القلب”.
ومن جهة أخرى قدّم الدكتور الأسعد العياري محاضرة عنوانها “الدولة الدينية والدولة المدنية في موسوعة سراج لعبد السلام ياسين” تناول فيها مسألة الدولة في النص الديني وقوفا على الأنتروبولوجيا السياسية ومحصّلات اللاهوت والسياسة، وتطرّق الباحث إلى نظام الحكم في نظريّة المنهاج النبوي متطرّقا إلى حدود الدين ومحدودية العقل. وقد انتهى العياري في مداخلته إلى امتزاج الرؤية السياسية بالرؤية الإلهية في فكر الأستاذ عبد السلام ياسين وبين مدى إلحاحه في طرحه لقضية العلاقة بين الدين والسياسة على ضرورة إشراك المقدس في ضبط شؤون السياسة وممارسة وظائفها وتخير نظام الحكم لاستجلاب المشروعية حتى لكأن السياسة محتاجة للدين لتحديد رهاناتها المستقبلية.
وانتهى العياري إلى القول إن خلاص الإنسانية ونجاة الأمة الإسلامية حسب الأستاذ عبد السلام ياسين لا تكون إلا بإلغاء الأنظمة الدكتاتورية وتصحيحها بنشر الديمقراطية والعدالة والحرية والمساواة وإلغاء الفوارق العرقية والدينية ونبذ التعصب ورفض الغلو. ويرى الباحث أنّ أفكار الأستاذ عبد السلام ياسين تمثل من هذا المنطلق “اتجاها فكريا يبحث في ثنائية القرآن والسلطان وما تقتضيه من مستلزمات وشروط تكون كفيلة بتحديد نموذج الدولة الواضحة التكوين والتي يمكن اتباعها والتعويل عليها لضمان سعادة الأمة الإسلامية وازدهارها وهو في طرحه لا يتعامل مع مفهوم الحكم أو الخلافة أو السياسة بكونها معادلة رياضية ثابتة بل يتعامل معها باعتبارها ممارسة مدرجة على التغيير والتبدل بتحول المعطيات والتحولات المباشرة واللصيقة بأرض الواقع والقريبة منه، مع ضرورة المحافظة على ثوابت القرآن والسنة في تسيير شؤون البلاد وتصريف شؤون الرعية، لأن معضلة المجتمع الديني لا تكمن في الدين مهما كان مصدره وضعيا أو سماويا، بل تكمن المعضلة في المؤسسات التي تمثله. وإن كل ما شيد من حقائق وعلوم ومواضعات قد لا تنفك تنتفي وتتغير بمجرد بروز أول قوة نابضة أو أي فهم جديد لفحوى النص الديني تدفع إلى إعادة النظر في كل ما ظن أنه في مأمن عن كل مراجعة”.
وقد عقبت المحاضرات حلقة نقاش موسعة تفاعل فيها الجمهور مع ما قيل في المحاضرتين حول فكر الإمام ياسين عبد السلام، وساهمت حلقة النقاش في إثراء ما قدّم وتوضيح ما جاء غامضا وموجزا في المحاضرات. وقد كان هذا اللقاء مميّزا في تطرّقه إلى أعمال هذا العلامة المغربي الذي ذاع صيته في العالم بفضل آرائه ومواقفه وموسوعيته.
تعليقات