قراءة في كتاب “في مناكبها، خلف بحر الروم” للأستاذ لحسن شعيب
قئة المقال: | مقالات |
---|
قراءة في كتاب “في مناكبها، خلف بحر الروم” للأستاذ لحسن شعيب
مقدمة
إن ما يميز الرحلة عن باقي المغامرات التي قد يقدم عليها المرء، غموضها وخفاء ما في طياتها، فالمسافر لا يعلم ما سيلقى من سفره من نصب؛ والرحلة متعبة ومرهقة، ومكلفة أيضا، ولكنها ممتعة أكثر من أي شيء، مهما كانت النتائج والمآلات. وقد كتب من كانوا قبلنا كتبا دونوا فيها أسفارهم وتجاربهم، ووصفوا ما شاهدوه بأم أعينهم، وما سمعوه بآذانهم، ربما لكي يحرضوا من بعدهم على شد الرحال، والسياحة في أرض الله الواسعة، يقول الشافعي:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إن من يهتم بأدب الرحلة، وما يكتب في الرحلات من خواطر لابد وأنه سيجد ضالته في كتاب “في مناكبها” بأجزائه، وبلا شك سيقف عند تجربة الكاتب في سرد أحداث الرحلة، وقد أشار الكاتب في كتابه الشيق أنه راجع مجموعة من الكتب التي اهتمت بالرحلة وآدابها، وهذا دليل على أنه يريد أن يقدم بحق مادة تزيد من هذا الفن وتعلو به، يقول في مقدمة الكتاب: “وهكذا رجعتُ إلى كتب الرحلات ألتهمها، وأقرأ ما بين سطورها، وأقارن منهجيات كتابها، فوجدتُ أن لكل واحد بصمته الخاصة به…” ومن بين هذه الكتب التي ذكرها ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي ألفه “رفاعة الطهطاوي”، وهو كتاب يدرجه البعض ضمن كتب التنوير، ذلك أن “رفاعة” من رواد الإصلاح والانفتاح، ولطالما يتميز العقل الذي يرى الأشياء فيميزها على عقل دونه يكتفي بالتفكير في الأشياء أو القراءة عنها، لم يخف على الأستاذ “لحسن شعيب” كثرة التصانيف في الموضوع وكثرة ما دون في الرحلة، إلا أنه مقتنع أن لكل إنسان بصمة يتميز بها عن غيره، يقول الكاتب: “ومهما كثرت المؤلفات في الرحلة، فإني متأكد أنه يوجد أحيانا في النهر ما لا يوجد في البحر”.
نبذة عن الكاتب
الأستاذ لحسن شعيب كاتب وقاص، ولد في مدينة تنغير، دوار أيت أريتان، بالجنوب الشرقي للمغرب، وقد عمل أستاذا للتربية الإسلامية بالسلك الثانوي التأهيلي في الجنوب، قبل أن يلتحق بمركز تكوين المفتشين بالرباط، ليتخرج منه مفتشا تربويا، وهي المهمة التي يزاولها إلى الآن، كما تنوعت دراساته الجامعية، إذ درس القانون باللغة الفرنسية، ودرس علوم التربية بالرباط، كما تخرج من دار الحديث الحسنية للدراسات العليا، قبل أن يحصل على إجازة في الدراسات الإنجليزية، وعلى ماستر في تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها. لذلك فهو يتميز بسعة اطلاعه، وقوة ملاحظته، وإتقانه لأكثر من لغة إلى جانب لغته الأم التي يعشقها. ومنذ نعومة أظفاره، كان يدون في ذاكرته ملاحظاته للحياة، ويدون أسفاره ولو تلك التي تكون لمسافات يسيرة، قال عن نفسه ” كان أول سفر طويل سافرته مشيا على الأقدام…”، وقد شارك في كتب جماعية، وصدرت له مقالات في مجلات ومواقع إلكترونية.
قراءة في العنوان والغلاف
مما لا شك فيه أن الواجهة من الأشياء التي يهتم بها الإنسان في جميع أحواله، إذ إن العين إذا اقتحمت شيئا يصعب عليه أن يقوم مرة أخرى، وهذا ما حرص عليه الأستاذ “لحسن شعيب” في كتابه الجميل “في مناكبها” قلباً وقالبا. وأول شيء يمكن أن يثير انتباه القارئ لون الغلاف، والصورة المرفقة به، وللتنوير فإن اللون حقيقي يعكس لون البحر الذي أخذت فوقه الصورة، وجناح الطائرة خير دليل على ذلك، يفيد الغلاف في تجريدته ربما علو همة المسافر وارتفاع مقامه، فالمسافر كما ورد في الكتاب يعدل بسفره من يقرأ الكتب، ويعتكف على المطالعة، وفي هذا يقول الكاتب على لسان كونفوشيوس: “أن تسافر ميلا خير من أن تقرأ ألف كتاب” والسفر كما يقال مدرسة وتجارب، كما قد يعني الغلاف لمن يتفرسه أن السفر سماء عالية، وتجربة غالية، وتواضع المسافر وسعة علمه بالثقافات المختلفة أرض تسع الجميع، وغيرها من التفسيرات…
اختار الأستاذ “لحسن شعيب” ” في مناكبها” عنوانا رئيسا لكتابه الجميل الذي سيكون مجموعة مجلدات، ويمكن إعرابه كالتالي: من حرف جر، مناكب: اسم مجرور، الهاء ضمير متصل. ويعني في مناكب الأرض: في فجاجها، أو في جوانبها، أو في أطرافها… وقد اقتبسه من الآية القرآنية ” فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه” (الملك: 15) فالسفر يقتضي المشي والسعي، إذ هو رزق فضل الله به ناسا على آخرين، وذلك لما له من منافع ومشارب…
فكرة الكتاب
ورد في الكتاب مثل إنكليزي اقتبسه الكاتب من مؤلف للصحفي المصري أنيس منصور يقول: “والمسافر يجب أن يكون له عينا صقر ليرى كل شيء، وأن تكون له أذنا حمار ليسمع كل شيء، وأن يكون له فم خنزير ليأكل كل شيء، وأن يكون له ظهر جمل ليتحمل كل شيء، وأن يكون له ساقا معزة لا تتعبان من المشي، وأن يكون به حقيبتان: إحداهما امتلأت بمال، والثانية امتلأت بالصبر”
يمكن أن ينتخب هذا المثل ليكون بمثابة أدوات اشتغال المسافر لرصد دروسه من سفره، وبمثابة مفتاح لكل قارئ يهتم بالرحلة وآدابها.
يحكي الجزء الأول من السلسلة عن تجارب الكاتب في السفر، منذ أول رحلة تحركت فيها بوصلته في أرض الله الواسعة، ولعل الكاتب أراد أن يأخذ معه في سرده ووصفه كل مهتم بالثقافات الأخرى، وما يوجد فيها من عمران ومآثر، وعلم، وأدب، ولغة…
يبدأ الكتاب بالحكي عن أول رحلة قام بها خارج أرض الوطن قبل ما يقارب العقدين من الزمن، وكانت إلى فرنسا أرض الفكر والتنوير، والأدب والفلسفة، بعدها خصص لكل دولة من الدول التي شملها هذا الجزء من الكتاب صفحات قسمها بالعدل بين الدول، فمثلا حكى عن إسبانيا وما تتميز به عن دول أخرى من طرقات وبنيات تحتية، وحكى عن هولندا البلد الذي بناه أهله متحدين الطبيعة، ووصف الجامعات والطرقات والناس، حتى إنه ذكر بعض الطرائف التي واجهته أثناء رحلته، ولم يغفل الأستاذ “لحسن شعيب” أثناء وصفه وسرده عن أسلوب المقارنة، فهو حريص على ذكر ما يميز بلدا عن الآخر ليجعل القارئ يبوح بما في خاطره من أسئلة، فالفكرة الشائعة ليست دائما صائبة، وإنما قد تكون مجرد خطأ شائع تناقله الناس، وهذا من الدروس التي يعلمها الكتاب، درس عدم الحكم لمجرد فكرة سائدة.
ولعل الفكرة الأساسية التي يجعلها الكتاب قضيته الأولى حسب قراءتي وفهمي، مسألة الانفتاح على الثقافات الأخرى، والسعي لاكتشاف ما في طياتها من أسرار، فالمسافر يرى ويسمع ويناقش، والأهم من ذلك أنه يتحدث بأكثر من لغة خصوصا إذا كان مسافرا مولعا بالبحث والمقارنة والاستنتاج، وكما يقال: ” كل لسان في الحقيقة إنسان” فالذي يتعمق في الفكرة العامة للكتاب سيجد أن السفر يعلم دروسا لا توجد في المدارس، ولا في الكتب، لذلك في غالب الأحيان يكون المسافر أكثر نضجا ومعرفة بالناس، وتقاليدهم، ونحلهم أكثر من غيره، بمعنى آخر أن المسافر يملك تجربة وكنزا ثمينا، ويمكن تلخيص فكرة الكتاب في كونه:
- كتابا يمكن إدراجه ضمن أدب الرحلة؛
- يحكي عن تجربة حية عاشها الأستاذ “لحسن شعيب” أثناء أسفاره؛
- يعلم حكم السفر ويعطي معلومات قيمة عن الدول التي تناولها هذا الجزء؛
- يحث كل قارئ يملك مخيلة واسعة إلى شد الرحال وبدء السفر لاكتشاف العالم؛
- ما نراه أمامنا ما هو إلا شيء صغير أمام العالم الكبير.
اقتباسات من الكتاب
– “… إذا زرت أحدهم بلا موعد مسبق، ووجدته يتغذى أو يتعشى، فقد يستقبلك، ويجعلك تنتظره في صالة الضيافة ريثما ينتهي من تناول طعامه، وغالب الظن أنه يحضر لك مشروبا من الثلاجة، لكن لن يدعوك لتناول الطعام.”
– “هناك مثل فرنسي يقول: (من بعيد نرى الأشياء جيدا)، لذلك حين تكون وسط غابة مثلا، فلن ترى حريقا نشب فيها ولا أسدا مفترساقريبا منك، ولن ترى حدودها، لهذا يحسن بالمرء حين تعترضه مشكلات أن يبتعد عنها، وينظر إليها من مسافات بعيدة….”
– ” لم أر في حياتي قوما أكثر وأشد تعصبا للغتهم من الإسبان، يحرصون على مخاطبتك بلغتهم، ولو كانوا متأكدين أنك لا تفهمها، ولو كانوا يعرفون اللغة الأخرى التي تتكلم بها.”
– ” إذا طلبت كتابا، وكان هذا الكتاب في مكتبة الجامعة، فإنك تجده على طاولة كبيرة في اليوم الموالي، أما إذا لم يكن الكتاب الذي تريده موجودا في ألمانيا، فإن الجامعة تشتري منه نسخا كافية من أمريكا أو بريطانيا أو حتى من الصين…”
– “وإذا صادفت فتاة تلبس بطريقة سخيفة جدا فغالب الظن أنها من أصول عربية. والشيء بالشيء يذكر، فقد أخبرني أحدهم أن ألمانياً قال لمغربي يزوره:” يستحيل أن تسمع منبهات السيارة في ألمانيا”، وبينما هما يتجولان زمر أحدهم، ضحك المغربي، بينما أحس الألماني بالحرج، لكنه راهن ضيفه أن المزمر لا يمكن أن يكون لمانيا، فاقتفيا أثره حتى استوقفاه في منعطف على الطريق، وتحدثا إليه ثم انصرفا، قال الألماني لصديقه المغربي: ” للأسف هذا واحد منكم”.
قيمة الكتاب والمنهج المعتمد لتأليفه
تتجلى قيمة كتاب ” في مناكبها” في الكم الهائل والمتراكم من التجارب التي أوردها الأستاذ لحسن شعيب، وفي كونه مرجعا ودليلا يمكن الرجوع إليه، كذلك لا يمكن للقارئ أن يخفى عليه الزاد المعرفي الذي دعم به الكاتب مؤلفه، ومما يثير الانتباه في الكتاب ويزيده قيمة وتميزا، سلاسة السرد الذي انتهجه الكاتب، وبلاغة الامتاع التي تزين الكتاب، المليء بالحكم والتجارب، والدروس والفوائد. وقد مزج الكتاب بين المنهج الوصفي، والمقارن، والتاريخي وغيرها من المناهج. والكتاب يحقق ما رجاه مؤلفه بحق: المتعة والفائدة.
خاتمة
ختاما نخلص إلى أن ” في مناكبها” يعد مرجعا ودليلا في تحليل الثقافات الأخرى المختلفة، فهو يقدم نفس المادة التي يقدمها كتاب “العرب وجهة نظر يابانية” بشكل مختلف وبتحليل مغاير، فنبواكي نتوهارا في كتابه اعتمد على التحليل النقدي للبلاد التي تتحدث اللغة العربية، انطلاقا من ثقافته اليابانية المختلفة تماما عن الأمكنة التي زارها، بينما في مناكبها يركز الكاتب على الموضوعية السردية والوصف الدقيق للرحلة مع انتهاج مناهج مختلفة، وفي النهاية فالكتابان غنيان بالمعلومات التي ولابد تضيف الكثير للأدب والثقافة بشكل عام.
—————————————————–
—— طبع الكتاب في دار القلم بالرباط في 248 صفحة من الحجم المتوسط، الطبعة الأولى 2023.
تعليقات