بين الأحساب والأنساب
قئة المقال: | مقالات |
---|
بين الأحساب والأنساب
لا شك أن للأحساب والأنساب أثرا في نظرة الناس لمن هيئ الله ذلك لهم، لكن علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن الأحساب والأنساب إذا بقيت في حيز التاريخ فقط صارت مفاخر تاريخية؛ بمعنى أن امتدادها في أشخاص الأبناء والذرية قد انقطع وتوارى، والاستمرار الوحيد لها مؤثرة فاعلة هو أن يستمر في سلوك الأبناء ما مُجِّد لأجله الآباء والأجداد.
ولعل ذلك من نلحظ أهميته في دعوة زكريا عليه السلام أن يرزقه الله تعالى الذرية الصالحة، قال تعالى: “هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ” سورة آل عمران 38.
والقرآن الكريم أثبت أن الإنسان مؤاخذ يوم القيامة بنتيجة عمله، ومرهون بفعله؛ وأن صلاح الذرية قد يفيد الآباء إذا كانت الذرية امتدادا لفعالهم الطيبة وسيرتهم الحسنة، ولا يضرهم فساد أبنائهم إلا إذا كان ذلك بتقصير منهم في التربية والتنشئة والتوجيه.
وعن امتداد الخير حين التزامه، وانتفاء المؤاخذة حين انقطاعه، يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ” الطور: 21.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَامْتِنَانِهِ وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانِهِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ فِي الْإِيمَانِ يُلحقهم بِآبَائِهِمْ فِي الْمَنْزِلَةِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا عَمَلَهُمْ، لِتَقَرَّ أَعْيُنُ الْآبَاءِ بِالْأَبْنَاءِ عِنْدَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، بِأَنْ يَرْفَعَ النَّاقِصَ الْعَمَلِ، بِكَامِلِ الْعَمَلِ، وَلَا يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَاكَ .. ثم يقول: وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ أنه لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْفَضْلِ، وَهُوَ رَفْعُ دَرَجَةِ الذُّرِّيَّةِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، أَخْبَرَ عَنْ مَقَامِ الْعَدْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ، بَلْ ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ أَيْ: مُرَّتُهُنَّ بِعَمَلِهِ، لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ أَبَا أَوِ ابْنًا، كَمَا قَالَ: “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” المدثر: 38. قال ابن عباس: ﴿رَهِينَةٌ﴾ أي: مأخوذة بعملها.
وعن صلاح الذرية وفائدته لمن سلف من آبائهم، يقول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الرَّجلَ لتُرفَعُ درجتُه في الجنةِ فيقولُ: أنَّى هذا؟ فيقالُ: باستغفارِ ولدِك لكَ” صحيح ابن ماجه. وكما أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن ذلك في قولِه: “إذا مات ابنُ آدَمَ انقَطَع عمَلُه إلَّا مِن ثلاثٍ، ومِنها: “ولَدٍ صالِحٍ يَدْعو له” صحيح مسلم.
فالخير الممتد منتفع به للجميع، والشر والسوء – والعياذ بالله- يتحمل صاحبه وزره الأكبر، قال تعالى: “وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى” الأنعام، من الآية: 164. وقال تعالى: “يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ النحل: 111. ومعنى “تجادل عن نفسها” كما قال ابن كثير: أَيْ: تُحَاجُّ ﴿عَنْ نَفْسِهَا﴾ لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاجُّ عَنْهَا لَا أَبٌ وَلَا ابْنٌ وَلَا أَخٌ وَلَا زَوْجَةٌ ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ أَيْ: مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ أَيْ: لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ الْخَيْرِ وَلَا يُزَادُ عَلَى ثَوَابِ الشَّرِّ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا”.
وعلى ذلك فعلينا أن نراعى الأصل والحسب والنسب، وبقدر ذلك علينا أن نحرص على أن نكون امتدادا له في العمل والخُلق والدين؛ فقد قيل: “وَرُبَّ حَسِيبِ الْأَصْلِ غَيْرُ حَسِيبِ” أَيْ لَهُ آبَاءٌ يَفْعَلُونَ الْخَيْرَ وَلَا يَفْعَلُهُ هُوَ.
فما فائدة حسبه ونسبه وتاريخ آبائه؟ إن لم يكن لتاريخهم مراعيا، ولحسبهم ونسبهم مقدرا، ولفعالهم مقتديا، ثم ماذا يجني المجتمع من الأحساب والأنساب إلا امتداد خيرها في صورة وحركة أبنائها وذرياتها. وعلى ذلك فمقياس حسب الآباء والأجداد وإظهار الشرف بهم وبفعالهم الطيبة؛ أن نكون نحن امتدادا لهذا التاريخ، وشاهدا له أمام الناس؛ فلا بد أن يرى الناس في شخصي تاريخ آبائي وأجدادي. ومن هنا فقد فرق بعضهم بين النسب والحسب، فقال: النسب قائم لا شك فيه؛ لأنه امتداد مادي للإنسان، أما الحسب فليس كذلك؛ لأن الحسيب هو من يتمثل مآثر ومفاخر آبائه وأجداده ويقتدي بها، ويكون صورة عملية واقعية لها؛ ولذلك قيل:
وَمَنْ ڪَانَ ذَا نَسْبٍ ڪَرِيمٍ، وَلَمْ يَكُنْ .. لَهُ حَسَبٌ، ڪَانَ اللَّئِيمَ الْمُذَمَّمَا
وقَالَ الْأَزهَرِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِيَت مَسَاعِي الرَّجُلِ وَمَآثِرُ آبَائِهِ حَسَبًا، لِأَنَّهُم ڪَانُوا إِذَا تَفَاخَرُوا عَدَّ الْمُفَاخِرُ مِنهُمْ مَنَاقِبَهُ وَمَآثِرَ آبَائِهِ وَحَسَبِهَا؛ فَالْحَسَبُ: الْعَدُّ وَالْإِحْصَاءُ، وَالْحَسَبُ مَا عُدَّ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّهُ قَالَ: “حَسَبُ الْمَرءِ دِينُهُ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ، وَأَصلُهُ عَقْلُهُ”.
ولا شك أن ما قال عمر رضي الله عنه إذا تحقق في الذرية، صبغها بالتواضع لله، وأزال عنها الفخر والكبر الذي يعيب صاحبه، حين يرفع نفسه ليحط من قدر غيره لا لشيء إلا لتفاخره بمآثر آبائه وأجداده. ولعل ما ورد في حديث النبي صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ما يشير إلى ذلك، حين عد مجرد التفاخر بالأحساب من أمر الجاهلية، فقال: “أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ … الحديث” صحيح مسلم
وبقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أيضا: يومَ فتحِ مَكَّةَ: “يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها، فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ، قالَ اللَّهُ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” أخرجه الترمذي واللفظ له، وابن حبان.
وعلى ذلك فلن ينفع الحسب والنسب صاحبه إلا إذا كان برا تقيا، حينها سيكون كريما على الله قريبا من ربه، ومن كان فاجرا شقيا، فلن ينفعه ما كان عليه من حسب أو نسب أو مكانة لآبائه وأجداده بين الناس، ولن يرفعه ذلك عند الله، بل سيكون مهانا بعيدا مبعدا، لا مكان له ولا مكانة عند الله يوم القيامة؛ إن المكرم هو الأتقى ولو كان عبدا حبشيا، والمهان هو العاصي الفاجر ولو كان شريفا قرشيا؛ إنها الكلمة الفاصلة يوم حجة الوداع، حيث قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: “يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكم واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى، “إنَّ أكرَمكم عند اللهِ أتقاكُم” أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، والبيهقي في شعب الإيمان.
فاللهم بلغنا مواطن العز بك، والعمل بما يرضيك، وقنا شر أنفسنا يا رب العالمين
أ.د. علي عثمان منصور شحاته
تعليقات