الدكتور أحمد العمراني: المفكر المجتهد يستنبط مكنونات كتاب الله المقروء ويكتشف سنن الله في الخلق.

قئة المقال:حوارات

أجرى الحوار: د. عبد الإلاه بالقاري 

يسعدنا أن نجري حوارا علميا مع فضيلة الدكتور أحمد العمراني أستاذ الفكر الإسلامي بشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط، في موضوع يرتبط بالفكر الإسلامي وقضاياه. 

س ـ يحتاج مصطلح الفكر الإسلامي إلى تحرير يرسم منهاجه ويحدد قواعده ويؤصل مفاهيمه، ما تعريفكم أستاذي الكريم للفكر الإسلامي، وما هي في نظركم المنطلقات الأساسية للمنهجية الإسلامية والفكر الإسلامي؟

ج ـ قبل الإجابة عن السؤال أود الإشارة إلى أن كثيرا من الأساتذة والباحثين في الدراسات الإسلامية والعلوم الشرعية -مع الأسف- يعادون الفكر الإسلامي وأهله، وذلك جلي في مواقفهم، ونظرتهم إلى المتخصصين فيه، وتحذيرهم لطلبة الدراسات والعلوم الشرعية منه، طبعا إننا نعذرهم حينما ندرك الأسباب والعوامل التي جعلتهم على ذلك الموقف المناوئ للفكر الإسلامي. وكما يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، ولعل أهم تلك الأسباب: جهلهم بمدلوله وحقيقته، من جهة، واصطحابهم للنموذج المدرسي خلال العقود السابقة بالتعليم الثانوي في مادة: “الفلسفة والفكر الإسلامي” والذي كان يقصد من خلاله إثارة الشبهات وتقديم صورة مشوهة للإسلام وفكر المسلمين، وقد كان معروفا آنذاك التيار الذي يتحكم في القرار الثقافي من خلال المؤسسات التعليمية وموقفه من كل ما يمتّ إلى الإسلام بصله. لذلك انطلت الخدعة أو الفرية على الكثير من المتعلمين، واعتبروا ذلك المحتوى المقدم إليهم هو الفكر الإسلامي حقا، ولم ينازعوا لا في المصطلح بتحرير مدلوله ولا في المحتوى بتقويم اعوجاجه وبيان حقيقته وإظهار خلافه. ولعلنا خلال هذا الحوار نقف على بعض النتائج التي خلفها هذا اللبس والتلبيس في المجال العلمي وانعكاسها على الدراسات الإسلامية أو الشرعية، وإلا ففي مناسبة أخرى إن شاء الله.

ولنرجع إلى الجواب عن سؤالك المتعلق بتعريف الفكر الإسلامي، لقد جرت العادة في الدراسات الإسلامية أو الشرعية والأكاديمية عندما نريد تعريف شيء أو اسم علم، نعرفه لغة واصطلاحا حتى تتضح صورته في الذهن و يفهم مدلوله ومضمونه. ولأننا الآن بصدد تعريف مركب وصفي، فلابد من تعريف الفكر أولا، ثم الإلماع إلى دلالة الفكر الإسلامي ثانيا.

1ـ الفكر في اللغة: هو من فعل فكر، يفكر، فكرا أو فكرا ويقال كذلك: فكّر، يفكّر(بالتشديد) تفكّرا وتفكيرا.

وقيل الفكر، مقلوب عن الفرك، الذي من فرك، يفرك. ويتعلق بالأمور المادية أي الحسية، نقول مثلا: يفرك الحب أو أي شيء ليخرجه من غشائه. والفكر كالفقه وزنا ومعنى، غير أن الفكر أعم من الفقه وأسبق منه إلى الذهن أو”العقل”. والفكر كالحرث كذلك، وكلها أسماء أفعال، قبل أن تكون أسماء لأشياء. وإن كانت تطلق بالتبع على ما ينتج عنها.

غير أن الفكر متعلق بالأمور المعنوية أو النظرية، حيث يعمل الإنسان نظره بالتأمل والتدبر في الأشياء الظاهرة والمعلومة للوصول إلى أشياء خفية غير معلومة بداهة أو بداية.

والفكر بهذا المعنى، عملية ذهنية متعلقة بالنظر والتأمل في الأشياء والأمور المعلومة ـ تميز الإنسان العاقل عن غيره من المخلوقات ـ بقصد الوصول والفهم والاستنباط وإدراك العلاقات والنسب بين الأشياء.

ويمكن القول أيضا: إنه إعمال للملكات التي يدرك بها الإنسان حقيقة الأشياء (من قلب وفؤاد، ولب وغيرها عن طريق النظر) ليصل إلى مكنوناتها وخفاياها والسنن الناظمة لها، ليعقلها ويدرك عللها والحكم والغايات من وجودها. والمقصود بالأشياء ما يحيط به من موجودات في الكون (عالم الشهادة) الذي سخره الله له إن أحسن التفكير والتدبير!

2ـ أما الفكر في الاصطلاح العلمي فهو: كل ما ينتج عن تلك العملية الذهنية أو النظرية، من أفكار وآراء وأحكام ورؤى ونظريات ومعلومات، وغيرها من النتائج التي يتوصل إليها الإنسان بالفكر والتفكر، وتمثل ثمرة النظر والاجتهاد في المعلوم والظاهر للوصول إلى المجهول والخفي.

وبناء عليه فإن الفكر الإسلامي ـ وإن تعددت تعريفاته لدى المفكرين من حيث الصياغة والتعبير اللغوي ـ يمكن تعريفه بأنه: كل ما توصل إليه مفكرو المسلمين بالنظر والتفكر والاجتهاد، من علوم ومعارف متعلقة بالخالق ـ سبحانه ـ والخلق، انطلاقا من الوحي واسترشادا به واعتبارا لمبادئ الإسلام وقيمه.

والذي نؤكده هو أن الفكر الإسلامي ليس الإسلام نفسه، وإنما الإسلام منطلقه ومرتكزه وضابطه، وإلا فلن يكون لفكر من ابتعد عن الإسلام في مصدره إلا الاسم، وإن كان مسلما صادقا. فما بالك لمن يدعي اعتماد الإسلام منطلقا وهو يعمل على إقحام فكر وفلسفات غير المسلمين في تصور وثقافة المسلمين!

وهذا يقودنا إلى الجواب عن الشق الثاني من السؤال المتعلق بالمنطلقات الأساسية للمنهجية والفكر الإسلاميين.

ويمكن التعبير عن هذا بجمع المنهجية والفكر كليهما ضمن مفهوم “المذهبية الإسلامية” ـ حسب تعبير الدكتور محسن عبد الحميد ـ والتي لا يمكن اعتبارها إسلامية حقيقة إلا إذا انطلقنا من الوحي الإلهي ( القرآن والسنة)، وهو المصدر الأول والأساس للعلوم والمعارف اليقينية التي لا يعمل الفكر إلا من أجل إدراكها وفهمها وتمثلها، والتسليم بها والاستسلام لها، وفي نفس الوقت يمد العقل بالضوابط والمبادئ والأدلة لإنتاج العلوم والمعارف الظنية، بالاجتهاد، والتي يعبر بها ومن خلالها المفكر المسلم المجتهد، عن إمكانية استثمار النص الشرعي ، وإيجاد الحلول لقضايا الإنسان المستجدة وتقديم الأجوبة عن تساؤلاته المستمرة .

وإذا كان الوحي يمثل مجال “الأمر” الذي ننطلق منه لتحقيق الائتمار بأمر الله جل وعلا، فإن الكون يمثل مجال “الخلق” (أَلا لَهُ ‌الْخَلْقُ ‌وَالْأَمْرُ) (الأعراف: 54) لذلك وجب اعتباره منطلقا للمفكر الإسلامي لتحصيل العلوم والمعارف لتحقيق مبدأ الاستخلاف، وتسخير ما خلقه الله لخدمة الإنسان وتكليفه بإعمار الأرض والإصلاح فيها. والقرآن الكريم يدعو صراحة لذلك في آيات كثيرة، وهي التي تشتمل على الدعوة إلى “التفكر” وتبين أهميته وعواقبه يقول تعالى (‌إِنَّ ‌فِي ‌خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 190 ـ 191). ويقول سبحانه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ ‌لَآياتٍ ‌لِقَوْمٍ ‌يَتَفَكَّرُونَ) (الرعد: 3)

ونجده سبحانه يدعو في كثير من الآيات إلى النظر في أحوال الأقوام و الأمم السابقة، وفي كثير من الخلق لأجل الاعتبار.

وحيث لا يمكن إدراك مكنون الوحي ولا مضمون الكون إلا بالنظر والتفكر والتدبر والعقل، فلا بد من إعماله والانطلاق منه. وذلك قصد استنباط ما خفي من مكنونات واكتشاف ما ستر من حقائق وسنن الخلق. وما لم نقم بهذا فإننا لن نستطيع إبراز كنوز الوحي، ولا كنوز الكون ولن نظهر فضل نعمة العقل ولا قيمة الفكر ولا أهمية الاجتهاد.

س ـ ينص بعض كثير من أهل الفكر أن أزمة الأمة الإسلامية تتمثل في أمرين اثنين: الوافد المسموم والتراث الميت، ما المقصود بهذه الثنائية، وهل تتفق مع هذا الرأي؟

ج  : لعل المقصود من السؤال، أسباب الأزمة وليس تشخيصها. وما أظن هذا قول الكثير من المفكرين قد يكون قول أو رأي القليل، وإن كنت لا أعرف أحدا حصر المسألة في هذين السببين. أما المقصود بالثنائية فالذي عليه تحديده هو من قال بها، وإذا سألتني عن ماذا نفهم منها يمكنني القول: إن المقصود “بالوافد المسموم” هو ذلك الفكر الداخل أو الغازي الآتي من خارج الأمة الإسلامية أو ما يسمى ” بالفكر الغربي ” الذي يسعى أهله من خلاله إلى بث معتقداتهم ورؤاهم المتعلقة بمختلف المسائل الوجودية انطلاقا من الفلسفة العقلية المادية أو حتى الإلحادية  ومن ثمة الهجوم على فكرنا والتشكيك في ديننا وثقافتنا لمسخ هويتنا ومن أجل السيطرة علينا والتحكم في توجهنا، وهذا فعلا حاصل إلى حد ما في واقعنا، غير أن السبب الرئيسي في ذلك ـ والذي ينبغي التركيز عليه ـ هو أن حال الأمة ووضعها كان مهيأ لحصوله بسبب الانحراف الداخلي، السياسي أولا والتخلف العلمي تبعا لذلك ثانيا، وهو ما سماه المفكر مالك ابن نبي “بالقابلية للاستعمار” إذن يمكننا القول: إن التعفن الحاصل بجسم الأمة كان أسبق من تسميم الوافد، وعلى كل حال لا ينبغي أن نغفل ضرورة العمل على علاج العلتين، ودفع الآفتين.

أما فيما يخص “التراث الميت” كما قلت، فليست المعضلة فيه وإنما في تعاملنا معه: فهما واستيعابا واستلهاما واستثمارا، إن التراث كنز لا نحسن التعامل معه في الغالب الأعم. لقد أبلى أسلافنا رحمهم الله ورضي عنهم، البلاء الحسن فاستجابوا لمتطلبات واقعهم ووقائعهم وأجابوا عن تساؤلات مجتمعاتهم وحلوا أغلب مشكلاتهم وعالجوا كثيرا من إشكالاتهم.

لكن بالنظر إلى حالنا ـ في زماننا ـ ندرك مدى جهلنا وقصورنا في التعامل مع التراث، فأثر التعفن والتسمم المشار إليهما آنفا تجلى في كون الأول أنتج عقلية الاستسلام والركون والجمود، حتى صار فكرنا عموما عاجزا عن أن ينتج جديدا أو يعالج مستجدا أو يواجه مستبدا، فغلب على عقلنا التقليد وقناعة “ليس بالإمكان إنتاج أحسن مما كان”، وفي كون الثاني ـ أي التسمم ـ أفرز لنا من وقف موقف العداء والرفض للتراث، باعتباره مستنفدا لأغراضه أحيانا واتهامها  بكونه سببا في تخلفنا أحيانا أخرى، وهذا من أعراض وأمراض الغزو الفكري، وقد نتج عن هذا تمزيق الأمة إلى فريقين رئيسين مؤثرين: أولهما يمثل التيار ” الفكري” الموسوم بالتقليد والجمود. وثانيهما يمثل التيار (الفكري) المعروف بالتغريب والجحود، فهما على طرفي نقيض. الأول يقلد ولا يجدد، ويجمد على الموروث وكأنه وحي، حيث يكتفي بما أنتجه المجتهدون لزمانهم ولا ينظر في الوحي قبل وبعد النظر فيما خلفوه لنا رحمهم الله. والثاني تأثر بالفكر الغربي وانساق مع أطروحته، ولم يطلع على الموروث الثمين، ولا يعلم بقيمته لذلك جحده، “والإنسان عدو لما جهل” كما هو معلوم.

وتجدر الإشارة إلى القلة الباقية بين هذين الفريقين وهي التي تعبر عن حقيقة الفكر الإسلامي، وذلك من خلال التعاطي مع التراث بعقل الفاحص المستلهم بنية التلمذة والاستفادة، وبهم مستأنف مجدد يسعى إلى السير على منوال السلف ومنهجهم في التعامل مع الوحي فهما وتنزيلا، بحسب مقتضيات الأحوال، ومن ثم يعتبر التراث منطلقا ومدرسة لا يمكننا تجاوزه، بل لن نستطيع أن نبني فكرا ولا أن نتقدم حضاريا إلا بالتلمذة على من خلفوه، وفي نفس الوقت لن نسجن أنفسنا في دائرته ولا داخل أسواره. بل لا بد من النظر في الآفاق والأنفس والوحي، وكل ما حولنا، لنكون تلامذة نجباء لا أغبياء، وبهذا نكون أحسن خلف لأحسن سلف.

س ـ يُشتهر عنك القول بأن الفكر الإسلامي أبو العلوم، في مقابل العبارة الشهيرة الفلسفة أم العلوم، ما الباعث الذي دفعك إلى هذا القول؟ وما هي الأسس المعرفية التي تُقوّي وتدعم ما ذهبت إليه؟

ج ـ هذه العبارة أقولها في مقابل قولهم:” الفلسفة أم العلوم”، ولا أخفيك أنني عندما قلتها أول مرة، لم أفكر في دلالتها بعمق، وإنما كانت ردة فعل على قولهم:” إن العلوم كلها تنتج عن الفلسفة ” وأن الفلسفة هي أصل الحكمة، وبالنظر والتأمل ندرك أن الفلسفة لا تخرج عن نطاق الفكر غير أن منشأها كان في بيئة اعتمدت العقل المجرد، وخاضت في الأسئلة الوجودية، دون اعتبار للوحي بل ضدا عليه، لذلك كان لزاما على المفكرين المسلمين التعاطي معها بخلفية أخرى وتقديم  إجابات لتلك الأسئلة انطلاقا من الإسلام. ومن ثمة نقول إن الفكر الإسلامي استوعب كل المجالات المعرفية والعلمية فجعل الفلسفة جزءا منه، لمعالجة الإشكالات والجواب عن الأسئلة المتعلقة بعالم الغيب انطلاقا من الوحي، الذي قدم الأجوبة اليقينية والحقائق القطعية التي يعجز العقل من دونه عن الوصول إليها.

وبالنظر إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ندرك مدى الاهتمام بتوجيه الإنسان عموما إلى التدبر والتفكر والنظر قال تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ‌أَمْ ‌عَلى ‌قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد: 24)، وقد دعا القرآن في آيات كثيرة إلى التفكر في الكون وبين أهمية ذلك ونتيجته مثل قوله سبحانه (‌إِنَّ ‌فِي ‌خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: 190 ـ 191). وقوله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّما ‌أَعِظُكُمْ ‌بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (سبأ: 46).

والمفكر المجتهد هو الذي يستنبط مكنونات كتاب الله المقروء، ويكتشف سنن الله في الخلق، وبذاك تنشأ العلوم. طبعا الكثير من الناس ـ من طلبة العلم والمدرسين ـ مع الأسف لا يدركون أن كل العلوم، بما فيها الشرعية هي نتيجة الإعمال الفكري. فحينما يتكلمون عن الفقيه والمجتهد المستنبط للأحكام والمعاني لا يربطون بين المفاهيم والمصطلحات لتحديد الجامع بينها أو بيان الفروق فيما بينها.

إن أي مجتهد أو عالم أو فقيه أو أصولي .. هو بالضرورة مفكر. فالفكر أعم وتلك الأسماء التخصصية داخلة فيه. لكن عندما صار العقل مقلدا غير مجتهد، والفكر جامدا غير متقد اختلط الأمر على كثيرين – كما قلت- فاعتبر عندهم الفكر غريبا وطارئا ودخيلا … بل إن كل اجتهاد أو استشكال و محاولة تجديد أو نقد للموروث يعد تطاولا وتجاوزا إن لم يصبح فسوقا وابتداعا وضلالا. وبعبارة موجزة، إن الأسس المعرفية لما قلت، تتمثل في آيات القرآن المبينة لأهمية التفكر وما أنتجه العقل المسلم والإنساني عموما بالاجتهاد من علوم ومعارف أقيمت بها نظم وحضارات.

س ـ كيف السبيل إلى أن يقتحم الفكر الإسلامي المعاصر الاهتمامات الحياتية للمسلمين، ويسهم في صياغة مستقبلهم، ويغوص في أعماق قضايا التنمية ومشكلاتها وتحدياتها؟

ج ـ السبيل لذلك هو الانطلاق من الوحي، بعد العكوف عليه لفهمه والاغتراف منه، فهو الموجه والمرشد والمسدد: قال ربنا عز وجل مخاطبا ومعلما رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام (قُلْ ‌هذِهِ ‌سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، فإذا لم نستلهم من القرآن ونقتدي بالهدي النبوي، ونجعلهما قاعدة الانطلاق لا يمكننا التحقق بالفكر الإسلامي ولا تحقيق مقاصده التي هي بالضرورة مؤطرة بمقاصد الإسلام، وغايتها تحقيق مصالح العباد.

وبالإضافة إلى هذا، لا بد من معرفة واقع الناس وأحوالهم وحاجاتهم وتشخيص عللهم وأدوائهم، ومعرفة أسباب ضعفهم، وأزماتهم المتعددة والمتشعبة.. سياسية واجتماعية وثقافية …إلخ .وسيجد المفكر المعاصر نفسه أمام هذه التحديات كلها.

وأعتقد أنه لا بد من توفر شروط في المفكر المصلح كي ينتج فكرا إسلاميا بخصائصه ومميزاته، قادرا على معالجة الواقع واستشراف المستقبل. وأهم تلك الشروط أو قل الصفات:

1ـ الأهلية العلمية: ففاقد الشيء لا يعطيه.

2ـ التجرد والجرأة، فالانحياز أو الخضوع لجهة ما -غير الحق- يعمي أو يثني عن الصواب والخوف والهوان أو الوهن يمنع من قول الحق ويدفع لتزيين الباطل والعجز أمام التحديات، وعلاج المشكلات الحقيقية.

3ـ الانفتاح  على الفكر والخبرات الإنسانية، مع المعيارية أي بضوابط ومعايير مرجعية، والحكمة ضالة المؤمن .

4 ـ الحكمة والتدرج مع مراعاة عامل الزمن وسرعة تطور الحياة وتقلباتها.

5 ـ الواقعية : وتعني مراعاة الإمكانات ومعرفة الممكنات وإدراك المناسبات.

6 ـ إخلاص النية وصبغ الفكر بالربانية، بحيث لا يصبح جهد المفكر واجتهاده بغية الكسب المادي وتحقيق مصالحه الشخصية أو البحث عن الشهرة. ومع ذلك كله وغيره لا بد من استحضار البعد الرسالي، والحرص على إعطاء المثل ليكون قدوة للناس، لينخرطوا في أي مشروع بجد واطمئنان، وذلك لأن الناس فقدوا الثقة في أصحاب المشاريع الوهمية أو المزاعم والمذاهب الأيدلوجية، أو الخطابات الحزبية … التي يتخذها أصحابها مطيات لمزيد من السيطرة والاستغلال وتفقير العباد.

س. هل يمكن القول إن الفكر الإسلامي المعاصر مطالب ببذل الجهد في دفع شبهات الفكر العلماني اللاديني الذي يسخر من الإسلام ويثير الشبهات التي تشكك المسلمين في دينهم وتؤيسهم من مستقبل الإسلام؟

ج ـ طبعا، تلك جبهة وثغرة ينبغي أن تكون من صميم اهتمامات وأولويات الفكر الإسلامي المعاصر. وذلك نظرا لما أحدثه الفكر العلماني من تشويش على فكرنا الإسلامي، أقصد فكر كثير من المسلمين الدين تأثروا بالطرح العلماني.  إضافة إلى خمولنا الفكري الذي نتج عنه ضبابية ـ إن صح التعبيرـ في الرؤية الإسلامية لدى كثير من المفكرين أنفسهم. والأخطر من ذلك هو ما وصل إليه وضع وحال الأمة حيث تحكم العلمانيون في مراكز القرارات السياسية والثقافية وغيرها.

س ـ بوصفكم أستاذا جامعيا متخصصا في قضايا الفكر الإسلامي، ومن خلال تجربتكم الغنية في التدريس والتأطير ومناقشة البحوث العلمية، ما هو تقييمكم للدرس الفكري في الجامعة المغربية؟

ج ـ مع الأسف “الدرس الفكري” كغيره من دروس التخصصات الأخرى، يعاني من الارتجالية ـ في غالب الأحوال ـ والنمطية والاجترار …وضعف إن لم يكن انعدام الرؤية التجديدية، طبعا أنا لا أعمم، إذ هناك نماذج على ـ قلتها ـ  تجتهد لبث روح التجديد وتقديم الجديد  بغية الإسهام في النهضة الثقافية  وبث الوعي في الأمة من خلال فئة الطلبة باعتبارهم في طليعة الذين يعوّل عليهم في إصلاح حال الأمة.

والغريب أن هناك من الأساتذة المنتسبين لمجال العلوم الشرعية من يشوش على ما أسميته “بالدرس الفكري” إذ يعتبرون المادة دخيلة على المجال، وذلك طبعا راجع إلى جهلهم بحقيقته..منطلقا وموضوعا وغاية .

ثم هناك، من يكرس الوضع من خلال تدريس مادة: الفكر، وهو ليس من ذوي الاختصاص ولا من المهتمين بالأمر أصلا.

لقد ذكرت من قبل أن الأزمة الفكرية التي تعيشها الأمة والتي ترتب عنها كثير من التأزم والتخلف في مختلف المجالات تقتضي من الأستاذ الجامعي المدرك لأهمية الفكر في سبيل التحصيل العلمي والنهوض الحضاري، الاجتهاد لجعل دراسة الفكر الإسلامي منارة للتجديد واستشراف مستقبل الأمة الذي نتطلع إليه، مستبشرين بوعد الله لها بالنصر والتمكين قال تعالى (‌وَعَدَ ‌اللَّهُ ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (النور:55)، وقال سبحانه (قُلِ ‌اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105).

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين والمفكرين المستبصرين. إنه ولي ذلك والقادر عليه. ونستغفره من كل تقصير أو زلل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله رب العاملين.

تعليقات