د.مصطفى بورشاشن: البلاغة العربية بين المشارقة والمغاربة أصالة وامتداد 3/3
قئة المقال: | حوارات |
---|
حاوره:د.عبد الإلاه بالقاري
-مع مطلع النهضة العربية في المشرق العربي، ما التطور الذي حدث في الدراسات البلاغية؟
لعل أبرز حدث يمكن أن نسجله في مطلع النهضة العربية الحديثة هو ما قام به الشيخ محمد عبده حين أعاد إحياء كتاب “دلائل الإعجاز” للإمام عبد القاهر الجرجاني، من خلال شرحه، ومدارسته، في جامع الأزهر، فأرجع البلاغة العربية إلى نصوصها الأصلية، ووجه أنظار الباحثين، وطلبة العلم، إلى الينابيع الأولى للبلاغة، وإلى ضرورة النهل منها، من أجل نهضة علمية جديدة.
وعلى نهجه، ومنواله، سار صاحب المنار محمد رشيد رضا حيث نهض بتحقيق كتابي “دلائل الإعجاز” و”أسرار البلاغة” للجرجاني، وقدّمهما لجمهور العلماء، والباحثين، وطلبة العلم، في ربوع الوطن العربي.
والملاحظ أن جهود محمد عبده، وتلامذته، أثمرت عناية خاصة بالدرس البلاغي، من لدن علماء الأزهر، وطلبته، ومن أبرز هؤلاء العلماء والمدرسين الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي عُني عناية كبيرة بتدريس علوم البلاغة، بهذه المؤسسة العتيقة، وأخرج كتابا تعليميا رائدا في بابه، أعاد فيه شرح، وتوضيح، وترتيب، وتبويب البلاغة العربية بعلومها الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وَفق منظور السكاكي، والقزويني، وما تلاهما من اختصارات، ومطولات، ومنظومات.
وقد أثر هذا الكتاب تأثيرا عريضا في تدريس البلاغة العربية بالأسلاك التعليمية الثانوية والجامعية بمصر، وبعض أقطار المشرق العربي، دون إغفال تأثيره القوي في جامع القرويين بفاس، وجامع الزيتونة بتونس على وجه الخصوص.
وعلى نفس النهج سار علي الجارم، ومصطفى أمين، في كتابهما الشهير “البلاغة الواضحة البيان والمعاني والبديع”، وكان هذا الكتاب، الذي يغلب عليه التبسيط والاختصار، يدرس في معظم ثانويات عالمنا العربي، مشرقا ومغربا، لعدة عقود.
وامتاز الكتاب بطريقة ديداكتيكية وبيداغوجية في عرض مضامينه، حيث بدأ بذكر أمثلة الانطلاق، وهي شواهد من عيون التراث الأدبي العربي، وشرحها شرحا تطبيقيا مفصلا، منتهيا بإجمال قواعد الظاهرة البلاغية، قيد الدرس، مع التذييل بتمارين، وتطبيقات متنوعة.
وعلى المستوى الجامعي، صنف الدكتور عبد العزيز عتيق كتبه في البلاغة العربية، والتي كان قد ألقاها محاضرات على طلبة قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة بيروت العربية. وهي ثلاثة كتب: “علم البيان” و”علم المعاني” و”علم البديع”. وقد أضحت هذه الكتب مرجعا أساسا للأساتذة، والطلبة على السواء.
ونذكر من بين هذه الكتب المدرسية التعليمية كتاب انطوان مسعود البستاني “البلاغة والتحليل”، وهو موجه للثانويات، والجامعات، ومراكز التكوين، وقد اعتمد صاحبه في تأليفه أساليب عصرية، ونُهوجا تربوية حديثة، وتمارين، وتطبيقات، تدور حول نصوص، أو عبارات أدبية كاملة. لكنَّ هذا الكتاب التعليميّ لم يخرج في مجمله عمّا كان سائدا بعد السكاكي، وتلامذته، ومن جاءوا بعده، من شراح التلخيص، ومحشّيه.
وجملة القول، إن هذه النصوص، أو المقررات التعليمية، في البلاغة العربية المدرسية، فرضت نفسها، ونهوجها، ومسالكها، ومنازعها، في الأسلاك التعليمية الجامعية والثانوية. ومازال الوضع على حاله إلى الآن، رغم المحاولات التجديدية التي نهض بها بعض النقاد، والباحثين، في الدرس البلاغي.
-ما أهم هذه المحاولات التجديدية التي نهض بها الباحثون العرب في الدرس البلاغي؟ وما الإضافات النوعية التي أضافوها لهذا الدرس؟
ترجع البدايات المبكرة لتجديد الدراسات البلاغية إلى أحمد الشايب في كتابه: “الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب العربية”، وقد وضع الشايب في هذا الكتاب منهجا لبلاغة عربية جديدة استندت إلى نظريات علمية حديثة، يأتي في طليعتها علم النفس وعلم الجمال، وانفتحت على الدراسات الأسلوبية، واللسانية، وبذلك ترفَّع منهجه الجديد عن المقاربة التجزيئية للبلاغة ، بالاشتغال على دراسة الشاهد الشعري، أو الجمل المعزولة عن سياقها الأدبي، إلى دراسة بلاغية لأساليب الفنون الأدبية، والاهتمام بالأسلوب، وعناصره، وأنواعه، انطلاقا من الذوق الفني، والتأثير الذي يتركه لدى المتلقي.
ومن المحاولات التجديدية ما قام به الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات، في صحيفته الرائدة (الرسالة)، من خلال مقالاته الأدبية، وما أتاحه للأدباء والكتاب والباحثين من التجديد في أمور الأدب والفن عموما، والأساليب البلاغية، والبيانية، على وجه الخصوص.
ويعد كتابه (دفاع عن البلاغة) صيحة قوية ضد الإسفاف الذي وقع فيه بعض صناع القلم، من الصحفيين والكتاب، على أعمدة الجرائد والمجلات، جراء السرعة التي طبعت عصره، والتّطفّل، ما انعكس سلبا على اللغة العربية، وبلاغتها..
وقد دعا الزيات في هذا الكتاب، الذي يُعَدّ مرافعة قوية في اللغة العربية، وأساليبها، في البلاغة والبيان، إلى الاعتناء بتجويد الأسلوب، والاقتدار على إبداع الجمال من خلاله، ويعد الأسلوب في نظر الزيات الهندسة الروحية لملكة البلاغة. وإنما تُعنى البلاغة عنده بالعقل والذوق، ويتقصد عملها الجمع بين الفكرة والكلمة، وممارسة الإقناع عن طريق التأثير في عقول الناس، وقلوبهم، وإمتاعهم عن طريق التشويق، والترغيب.
ولعل أشهر هذه المحاولات التجديدية للبلاغة العربية كتاب “فن القول” لأمين الخولي. وقد استفاد هذا الكاتب من المرجعيات النظرية الغربية، في لغاتها الأصلية، خصوصا الدراسات النفسية، والجمالية، واللسانية، والاجتماعية، ودعا إلى بلاغة عربية أصيلة، منفتحة على روح العصر.
ومن أجل تحقيق هذا الانفتاح، عمل الخولي على تهذيب البلاغة العربية، وتجسير صلاتها بالفنون الأدبية، والجمالية الأخرى، وجعل وظيفة البلاغة الأساس الكشف عن جماليات فن القول، معتمدا في ذلك التذوق الفني، والوجداني، للأثر الأدبي، باعتباره كُلاًّ متصلا.
وقد عمل الخولي على ربط البلاغة بواقعها الاجتماعي، وواقع الحياة وتجاربها، لأنها من منظوره مادة من مواد النهوض، ومسايرة الحاجات الفنية المتجددة.
ويمكن إجمال هذه المحاولات التجديدية لهؤلاء الرواد في الدعوة للخروج من نطاق البلاغة المدرسية، التي خرجت من معطف السكاكي والقزويني، ودعوة جمهور الدارسين إلى تمثل واستيعاب البلاغة العربية، في ثوبها الجمالي، وأسلوبها الأدبي الجديد، المتصل بالذوق، والجمال، والتأثير، والانفتاح على الدراسات النفسية، والجمالية، والأسلوبية، التي تساعد على توضيح البلاغة، وبيان مسائلها، مع ربطها بواقعها الاجتماعي، باعتبار البلاغة لغة الحياة في ألوانها المختلفة.
-ما الآفاق التي فتحتها هذه الدراسات التجديدية؟
إذا كانت الدراسات التجديدية السابقة قد شكلت قطيعة مع التناول المدرسي للبلاغة العربية، وتجاوزت حسب تعبير أحمد الشايب فلك المنهج القديم، وانفتحت على معطيات عصرها، ومنجزاته المعرفية، والمنهجية، والثقافية، فإنها في الآن نفسه بثت روحا جديدة في التناول النقدي للبلاغة العربية، نهض بها نقاد باحثون استطاعوا بناء، وتشكيل، نظريات بلاغية جديدة، استوعبت الدرس البلاغي في أصوله، وتاريخيته، وانفتحت على مناهج القراءة في الفكر المعاصر اللسانية، والسيميائية، والفلسفية.
ويأتي في طليعة هؤلاء النقاد الباحث الأكاديمي التونسي حمادي صمود، في دراسته الرائدة “التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس للهجرة”. وقد تجاوزت هذه الدراسة-التي هي في أصلها أطروحة دكتوراه- مسألة وصف البلاغة العربية، وتأريخها، وبسط مضامين مصنفاتها، والحديث عن أعلامها، إلى دراسة النظرية البلاغية العربية، والكشف عن أسسها، ومكوناتها، والبنى الأساسية التي تحكمها. وتقديم قراءة جديدة للنص البلاغي، تستجلي خصوصية نظامه المعرفي، والأسئلة الكبرى التي يطرحها.
وقد استثمر صمود في هذه القراءة الجديدة التي قدمت رؤية شاملة للبلاغة العربية، المكتسبات المستجدة في المناهج المعاصرة، خصوصا اللسانيات، والأسلوبية، والشعرية.
وعرفت المقاربة النقدية والمنهاجية لصمود تطورا لافتا من شعرية الخطاب والفن، إلى نظريات الحجاج وتحليل الخطاب، حيث تحوّل البحث من النظر إلى البلاغة بوصفها معطى إبداعيا وتخييليا، إلى البحث فيها باعتبارها حجاجا وتداولا.
وقد استثمر صمود في هذا التحول المعرفي، والمنهجي، المنجزات الكبيرة في مجال العلوم الفلسفية، واللسانية، والسيميائية، وفلسفة اللغة.
ومن خلال هذه العلوم نهضت قراءته الجديدة للبلاغة العربية التي من أهم تجلياتها إنتاج المفاهيم، والتنظير لأسس القراءة والتأويل للنص البلاغي خصوصا، ونصوص الثقافة العربية الإسلامية عموما، وفتح الآفاق المشرعة للولوج إلى عالم البلاغة الجديدة.
ومن النقاد الذين تعد أعمالهم امتدادا لجهود حمادي صمود الناقد المغربي الأكاديمي محمد العمري، خصوصا في كتابه “البلاغة العربية أصولها وامتداداتها”، وإذا كان ما يشغل صمود في دراسته هو شعرية الخطاب، فإن العمري جعل همّه، وشغله الشاغل هو إنشاء بلاغة عامة، انطلاقا من التراث البلاغي العربي، وأنساقه الكبرى.
سعى العمري في هذا المؤلَّف إلى كتابة تأريخ شامل للبلاغة العربية، من النشأة إلى الامتداد، اعتمد فيه المساءلة التاريخية في إعادة قراءة البلاغة العربية، وتأصيل قضاياها، والحفر عَن جوانبها الدينامية.
ويأتي في طليعة البلغاء الذين سلط العمري عليهم الضوء، في تأريخه للبلاغة العربية، أبو عثمان الجاحظ، خاصة كتابيه (البيان والتبيّن) و (الحيوان)، وأعاد العمري قراءة الكتابين، وأكد أنهما ليسا كتابين في نقد الشعر، وأن البعد السيميائي في (البيان) لا يعدو أن يكون مشروعا، وليس منجزا، إنما المنجز هو الخطابية، خصوصا آلياتها الإلزامية التي هي الإقناع.
بالنسبة لعبد القاهر الجرجاني، فقد جمع العمري بين مشروعه التخييلي الشعري في “أسرار البلاغة”، والبعد التداولي الخطابي في “دلائل الإعجاز” ودعا إلى الجمع بين مقاصد الكتابين، وإعادة تنسيق القضايا التي يطرحانها، والتي لا تكاد تراوح النظم والغرابة.
أمّا السكاكي فقد ألمح العمري إلى أنه صاحب مشروع لعلم الأدب، وليس البلاغة ، ذلك أنه دعا في كتابه “مفتاح العلوم” إلى إعطاء الأولوية في دراسة الأدب لمجموعة من العلوم، منها علما الصرف والنحو، وعلما المعاني والبيان، ومباحث الاستدلال والشعر. وجعل السكاكي في ظاهر مشروعه النحو بؤرة تتكثف فيها المعاني، باعتبار المعاني والبيان تتميما لعلم النحو، وأنّ المعاني قائمة على المنطق والاستدلال.
أمّا منجزه الواقعي الذي عرف استمرارية مع مدرسته البلاغية، فهو أن النحو والاستدلال خادمان لعلم المعاني، وأنّ هذا الأخير مُكَمَّل بعلم البيان، وأنّ العلمين معا هما عمود البلاغة ومِلاكها، وبذلك حازت البلاغة، عند السكاكي، قصب السبق، وصارت جميع العلوم تابعة ومساعدة لها.
أما حازم القرطاجني في “منهاج البلغاء”، فقد جعل البلاغة علما كليا لعلوم الإنسان، وعلوم اللسان العربي، وحدد موضوعها في الشعر والخطابة، وعمدة الشعر التخييل، وتُكَمِّلُه الخطابة، وعمود الخطابة الإقناع، ويُكَمِّلُه التخييل، وإذا كانت الشعرية هي الغالبة على (المنهاج)، فإنها تظل دائما مفتقرة إلى الخطابية، محتاجة إليها.
لقد قام محمد العمري في هذه القراءة النسقية لأمهات الكتب البلاغية، بوضع يده على مفاصل البلاغة العربية، وفسَّر خلفيات مشاريعها ومنجزاتها، مستكشفا مساراتها الكبرى، في ضوء أسئلة العصر الحاضر، مستفيدا من الدراسات المعاصرة في الشعرية، ونظرية الأدب، والمعرفة الحديثة.
وخلص إلى أنّ البلاغة تجمع بين البعدين، التخييلي الشعري، والتداولي الخطابي.
وإذا كانت الدراسات السابقة لمشروع العمري البلاغي ركزت على الشعرية، من مثل كتاب حمادي صمود “التفكير البلاغي” ودراسات جابر عصفور، فإنه في كتاب “البلاغة العربية” رجَّح الكفّة الثانية للبلاغة، وهي الخطابية، انطلاقا من تاريخية البلاغة العربية، ابتداء من التوجه المعرفي للجاحظ في رسم بلاغة عربية تنهض على الفهم والإفهام، إلى القرطاجني في مزاوجته بين الشعرية والخطابية.
وبتأصيله لهذين البعدين للبلاغة العربية، وكشفه عن معالمها، وبيانه للإشكالات المعرفية، والمنهجية، التي يطرحانها، قدم تصوره لما أسماه “البلاغة العامة”.
وتقوم هذه البلاغة في مشروع العمري –مستفيدة من النظريات الحديثة والمعاصرة- على الاحتمال والتأثير.
ويشمل الاحتمال التخييل والتداول، أي الخطاب التداولي الحجاجي، والخطاب التخييلي الشعري، مع إمكان تداخل الجنسين في جنس واحد، بنسب متقاربة أو متفاوتة.
أما التأثير، أي التأثير في نفوس المتلقين وعقولهم من أجل استمالتها، فهو الصفة التواصلية الحوارية لكل نص بلاغي، في ارتباطه بالمقام.
وانطلاقا من هذه الرؤية المستوعبة للمنجزات البلاغية -قديما وحديثا- تجاوز العمري تعريفات البلاغة -التي لا تنتهي- بخلفياتها المعرفية والإجرائية المختلفة، وقدم تعريفا موحَّداً لها، بقوله: “هي العلم الذي يتناول الخطاب الاحتمالي المؤثر، تخييلا وتداولا، أو هما معا”.
فقامت بلاغته الجديدة على مثل هذه التعريفات الجامعة، وما تحبُل به من مصطلحات شبكية دقيقة، مثل: الاحتمال، والتأثير، والتخييل، والتداول، وغيرها من المصطلحات التي تسلحت بها هذه البلاغة الجديدة لتشييد معمارها، وتأثيث فضاءاتها.
ومن الاتجاهات البلاغية الحديثة، المجدِّدة والمطوِّرة للبلاغة العربية الاتجاه الذي بلوره الناقد، والروائي، الجزائري حبيب مونسي، في كتابه “بلاغة الكتابة المشهدية نحو رؤية جديدة للبلاغة العربية”، وتدور مواضيعه حول إبداعية، وجمالية، الأساليب البيانية العربية. وقد خصصه صاحبه للتعامل مع النصوص الأدبية تعاملا وصفيا، يتجاوز معيارية البلاغة التقليدية.
وقد استعرض مونسي في هذا الكتاب تعريفات البلاغيين العرب لهذه الأساليب، ووجه نقدا لاذعا للطابع العقلي، والمنطقي لتلك التعريفات الضيقة، التي كبلت الإبداع، وأفقرت ممكناته الجمالية، والفنية، وانفتح على القراءات المعاصرة، مركزا على التفسيرات النفسية، والجمالية، للشعر.
واستبعد مونسي في توجهه البلاغي الجديد المنازع البيانية العقلية، والمنطقية، للبلاغة العربية، فلم يتطرق لمفهوم المجاز، سواء حين كونه قسيما للحقيقة، أو حين يستقل بذاته مجازا مرسلا، أو مجازا عقليا. وركز كل اهتمامه على التشبيه، والاستعارة، والكناية، باعتبارها صورا تتفاعل مع التخييل، من خلال اللغة، لتشكل حقيقة مشهدية واحدة، تتقصد إحداث التأثير النفسي في المتلقي.
إن الصورة، عند مونسي، أساس المشهد وعماده، وهي جوهر الكتابة، وتتحدد الكتابة المشهدية في تحول الصور اللغوية إلى صور بصرية، والأحاسيس المجردة إلى أحاسيس مرئية، لأن العملية الإبداعية إنّما تتفاعل مع أساليب البيان من تشبيه، واستعارة، وكناية، كتشكيلات بلاغية للصور، وليس كصور شعرية.
ويتجاوز مونسي في هذا التصور البلاغي للمشهد كصورة كلية، حدود الكلمة، والجملة، إلى دراسة النص الأدبي في كليته، وإلى التركيب المشهدي المكون من مجموع الصور التي يتركب منها النص الابداعيّ ككل، في وحدة عضوية تجعل هذا النص موحدا، مادة وصورة، في إطار بلاغة الكتابة المشهدية، ولعل من أهم مميزات منهج مونسي هو بعده التطبيقي في دراسة الشعر، والشعر المعاصر، بوجه أخص، وقد استفاد في ذلك من آليات التحليل النصي والخطابي، ما جعل كتابته المشهدية تنصب على صميم العمل الأدبي والفني.
هذه بعضُ المشاريع العلمية التي اعتمدت التراث البلاغي العربي في قراءتها التجديدية، ووُفِّقَت في تشييد أنساق بلاغية متعددة، مستفيدة من الدراسات البلاغية الغربية، في علاقتها الحيوية بقضايا البلاغة الجديدة، وطرق تحليل الخطاب.
ولعل هذه الروح الابستمولوجية العالية في التعامل مع أصول البلاغة العربية القديمة، ومناهج النقد الحديث، هو ما جسد طموح هؤلاء الرواد لتجديد الدرس البلاغي العربي، وبناء أنساقه الجديدة.
وإن هذا الدرب التجديدي الذي سلكه أولئك الرواد، وأمثالهم، خاصة محمد مفتاح، وعبد الله الغذامي، ليؤشر على أنّ مسار القراءات الجديدة للبلاغة العربية لازال واسعا وممتدا، خصوصا وأن مشاريع هؤلاء الرواد العلمية، تتوسع وتغتني من لدن الدارسين الشباب، من تلامذتهم وطلابهم، وأن تلك الدراسات التجديدية، التي ألمحنا إلى بعضها آنفا، أضحت أنموذجا يُقتدى به في الأبحاث العلمية والأكاديمية، في مجال الدرس البلاغي خاصة، ودراسة التراث العربي الإسلامي عامّة.
-بوصفكم أستاذا باحثا في علم البلاغة، ومهتما بالدراسات الإسلامية، ما مستقبل البلاغة العربية؟ وما أثر هذه البلاغة في تفاسير القرآن الحديثة؟
إن تناول مستقبل البلاغة يحيلنا بالضرورة على مرحلة النشأة، فقد نشأت هذه البلاغة في مجال تداولي عربي صرف، من خلال تلك النقود التطبيقية الانطباعية التي شكلت وعيا أوليا بالبلاغة العربية، وترعرعت بفعل المثاقفة، والتي تجلت في تلكم المرافعات النقدية، والكلامية، من أجل تنزيه النص القرآني، وبيان إعجازه. أضف إلى ذلك انفتاح هذه البلاغة على الثقافات المعاصرة لها، فارسية، وهندية، ويونانية على الخصوص.
إن البلاغة العربية وليدة عصرها، وهي بأصالتها، وتجذرها، وتميزها لا تخشى الانفتاح على الثقافات الأخرى، نجد ذلك خَجولا عند عبد القاهر الجرجاني، خاصة في “أسرار البلاغة”، وجَسورا عند الفلاسفة المسلمين، والمدرسة المغربية في النقد والبلاغة، ممثلة في حازم القرطاجني، والقاسم السجلماسي…
من أجل ذلك، فالبلاغة العربية المعاصرة، وهي تخلص لأصولها ومقاصدها، لا تجد حرجا في الانفتاح على علوم عصرها، وتجديد مناهجها، وتحديث رؤاها. وجدنا ذلك واضحا في أعمال حمادي صمود، ومحمد العمري، وحبيب مونسي، ومحمد مفتاح، وعبد الله الغذامي، وغيرهم من الرواد الذين بعثوا روحا جديدة في البلاغة العربية، ووصلوا ماضيها بحاضرها، وتجاوزوا الفهم التراثي للتراث، واستحضروا مظاهر المعاصرة فيه، وانفتحوا على حركة التاريخ، والعلوم، والمعارف، منخرطين في النقاش العلمي العالمي حول موقع البلاغة في الخطابات النقدية، والفلسفية، واللسانية.
وقد اجتذبت هذه الأعمال المؤسِّسة الكثير من الدارسين، والباحثين الجدد، الذين استطاعوا التحليق -في دراستهم وبحوثهم- بين البلاغة وتحليل الخطاب، سواء في الجوانب النظرية، أو التطبيقية، مبشرين بمستقبل مشرق للبلاغة العربية.
وبالنسبة لأثر هذه البلاغة في تفاسير القرآن الحديثة، نُذكِّر بدءا أنّ القرآن يعد النص المحوري للحضارة العربية الإسلامية، وأنّ نشأة البلاغة الحقيقية إنما كانت في أحضانه، وأن أمهات كتب البلاغة العربية عُنيَت أوّل ما عنيت بمعرفة منازع جماله الأسلوبي، وروعة أسراره البيانية.
وقد نهضت كتبٌ في البلاغة التطبيقية جعلت همّها الأكبر بيان دقائق الأسلوب القرآني، والكشف عن روعة صوره البيانية والفنية، مثل كشاف الزمخشري، والمحرر الوجيز لابن عطية، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي. فالمشارقة والمغاربة معا جعلوا شغلهم الأعظم بيان هذه البلاغة القرآنية، من خلال المستويين النظري والتطبيقي.
ومع مطلع النهضة العربية، استعاد الشيخ محمد عبده بمنهجه الإحيائي التراث البلاغي، بهدف تمثله التمثل الصحيح، من خلال مصادره الأصلية، وكان للقرآن الكريم موقع الصدارة في هذه الفتوحات البلاغية الإحيائية، حيث استرجع الوعيُ العربيُّ الفهمَ للقرآن انطلاقا من الموروث البلاغي، يظهر ذلك في تفسير جزء عم للشيخ الإمام محمد عبده، وتفسيرات القرآن الكريم لرشيد رضا، وأحمد مصطفى المراغي.
وفي المحاولات التجديدية للبلاغة العربية في العصر الحديث التي استفادت من المرجعيات النظرية الغربية، خصوصا الجمالية منها، والنفسية، نجد أمين الخولي صاحب (فن القول) يعتمد منهجا تجديديا في تفسير النص القرآني، ودراسته دراسة أدبية، سماه بالتفسير البياني للقرآن، وإذا كان أمين الخولي قد وضع أصول هذا المنهج التفسيري، وحدد قواعده ومسالكه، فإن مجهودا مشتركا بينه وبين تلميذته عائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ قد أثمرت ثمرة تطبيقية، جلّت معالم هذه المنهجية التجديدية في التفسير، وذلك في كتابها: “التفسير البياني للقرآن الكريم”.
وقد استطاعت بنت الشاطئ في هذا المؤلَّف -من جزءين- تفسير سورٍ قصار من القرآن الكريم، أغلبها مكية، خالفت فيه الطريقة المعهودة في تفسير القرآن سورة سورة، حيثُ تُفْصَل الألفاظُ والآيات بعضُها عن بعض، من سياقها العام في القرآن كلّه، ووصمت هذه الطريقة بالتقطيعية والتجزيئية.
وبالمقابل تناولت في منهجها الجديد سور القرآن تناولا موضوعيا، القصد منه دراسة الوحدة الموضوعية في القرآن، وذلك بجمع كل ما فيه منه، والاهتداء بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب، بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذلك، من أجل الكشف عن الدلالة القرآنية لألفاظه، وبيان ظواهره الأسلوبية، وخصائصه البيانية.
وقد ذكرت بنت الشاطئ أنها أثناء اشتغالها بهذا التفسير البياني تجلّت لها المعجزة الخالدة للقرآن، مما جعلها تعيش تلك الأجواء الإعجازية البيانية، وتُبئِّر عملَها مستكشفة الإعجاز البياني، وأسراره الباهرة.
ومن الأدباء النقاد الذين أدلوا بدلوهم، في تفسير القرآن الكريم، وفق رؤية أدبية وفنية خالصة، سيد قطب، وذلك في تفسيره: “في ظلال القرآن”، وهو تفسير موضوعي، يهتم بالوحدة الموضوعية للسورة، حيث يتحدث عن السورة ككل، من ناحية أغراضها، مع ربط موضوعاتها بعضها ببعض، حتى تبدو الصورة في منتهى التناسق والإحكام.
ومن مميزات هذا التفسير، عن باقي التفاسير السابقة، تمهيده للسور بمقدمات، يلخص فيها موضوعاتها، ومضمون كل منها، ويبرز طابع كل سورة، وشخصيتها، وترتيب وتناسب آياتها ومقاطعها، وقد استمد سيّد رؤيته المنهجية، في تحليله الأدبي والبلاغي من كتابيه “التصوير الفني في القرآن” و”مشاهد القيامة في القرآن”، حيث جعل الكاتب التصوير الفني والمشاهد القرآنية القاعدتين الأساسيتين للكشف عن دلالات البيان القرآني، وجماليته التصويرية.
وتفسير “الظلال”، في مجمله، خواطر تواردت على سيد قطب في النفس، والحياة، والناس، وهو يحيا في ظلال القرآن، وقد عبّر عن هذه الخواطر، والأحاسيس، تعبيرا أدبيا رائقا، كاشفا عن روعة الجمال الفني في الكتاب المعجز.
ومن التفاسير النفيسة التي عُنيت بالكشف عن أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، في الكتاب العزيزتفسير العلامة محمد الطاهر ابن عاشور، وسماه “تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد”، ثم اختصره في “تفسير التحرير والتنوير”، وقد وعد في هذا التفسير بعدم الاقتصار على الحديث المكرور المعاد، كما أكد أنّه بقدر تجاوزه طوائف المفسرين على اختلاف مرجعياتهم ومنازعهم، فهو يُعنى بتهذيب تفاسيرهم وإغنائها، والزيادة فيها، وذلك بما فتح الله عليه من فهم في معاني القرآن، وما استثمره من الآليات المنهجية في تدبر دقائق البلاغة العربية، وأسرارها.
أما المنهج التفسيري الذي سلكه، فهو منهج متكامل، وطريقة بديعة، من أهم مميزاتها الاعتناء بالقواعد البلاغية والبيانية في الكشف عن دلالات القرآن ومعانيه، ووجوه إعجازه.
وقد عد من قواعد هذا المنهج التفسيري عشراً، يهمنا منها قاعدتان اثنتان. أولاهُمَا المقدمة الثانية، وذكر فيها أن استمداد علم التفسير إنَّما يكون من علم العربية، وأراد به معرفة مقاصد العرب من كلامهم، وأدب لغتهم، وعَنَى بالقواعد مجموع اللسان العربي، وهي متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، وهي الطرق المختصة لفهم معاني القرآن، وأسرار ألفاظه، وتراكيبه..
وإذا كان الشعر ديوان العرب الذي يُجتَلى من خلاله بيان معاني كلامهم، فإنّه المتن اللغوي الأساس لتفسير دلالات الألفاظ القرآنية ومعانيها. أما علما المعاني والبيان فهما علم دلائل الإعجاز، وبهما يعرف الفيض القرآني الذي لا أول له ولا آخر..
ثاني هذه المقدمات المنهجية في التفسير المقدمة العاشرة التي أفردها لإعجاز القرآن، وذكر فيها أن المفسر بحاجة إلى بيان ما في الآيات القرآنية من طرق الاستعمال العربي، وخصائص بلاغته، ودقائق وجوه إعجازه، لأن القرآن العظيم اختص بالدرجات العليا من البلاغة والبيان، فقصرت دونه الفهوم والعقول، وعجزت قدرة البلغاء والفصحاء عن الإتيان بمثله، أو سورة منه.
وفضلا عن كل هذا، فقد عُني ابن عاشور، بدقائق فنية بديعة في بيان روعة القرآن واتساقه وانسجامه، منها، بيانه لأغراض كل سورة من القرآن، والتناسب البياني في اتصال الآيات بعضها ببعض.
ويعد تفسير ابن عاشور التطبيق العملي الأمثل للبلاغة العربية على آيات الذكر الحكيم، فقد اشتمل على جل الأنواع والفنون البلاغية، بحيث لا يوجد تركيب لغوي، أو صورة فنية من القرآن إلاَّ وحظي من الدراسة والبيان، ما جلّى أسرار هذه البلاغة القرآنية، وفتّق معانيها، وبيّن دقائقها، تدليلا على عظمة المعجزة البيانية للقرآن الحكيم.
تعليقات