حوار مع د. مصطفى بورشاشن: البلاغة العربية بين المشارقة والمغاربة أصالة وامتداد (1/3)
قئة المقال: | حوارات |
---|
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
حاوره: د.عبد الإلاه بالقاري
يسعدنا أن نجري حوارا علميا مع الدكتور مصطفى بورشاشن أستاذ اللغة العربية وآدابها في موضوع حيوي يتصل بالدرس البلاغي وقضاياه
– حدثنا ابتداء، أستاذنا الكريم، عن تعريف البلاغة؟
يُحيلنا تعريف البلاغة على أصل الدلالة اللغوية لهذه الكلمة الذي يفيد الانتهاء والوصول، فتقول: بلغ الشيء؛ إذا وصل وانتهى إلى غايته. وهذا يتصل بالمتكلم، أي البليغ الذي يستطيع أن يعبر عن أفكاره، وما تجيش نفسه إليه، بغاية البيان والوضوح، وينتهي بذلك إلى منتهى قصده وغايته، وبالتالي فالبليغ هو الذي يمتلك القدرة على توصيل المقصود وبيانه، ويبلغ في ذلك منتهاه. ومن ذلك قيل في البلاغة: أن تُنهيَ المعنى إلى قلب السامع، فيفهمه. فيتصل بالبلاغة الوضوح والتوضيح، والبيان والتبيين. وهذه المفاهيم لها علاقة حيوية بتعريف الدلالة اللغوية للبلاغة.
ثم إن هذا الكلام الذي يجيش به صدر البليغ، له مواصفات، ومميزات، تتصل بالسّحر، أي خلب العقول وسلبها، لجماله وروعته، كما تتصل بالفتنة، أي فتنة صاحبها، وتَحيُّره، بحيث تلقيه في عوالم الغرابة، والإدهاش.
والعرب في قرونهم الثلاثة الأولى، قبل الإسلام، كانوا أصحاب لغة بلغت الذروة في الصحة والاستقامة، والجمال والبهاء، فقد تفننوا في القول الشعري وتباروا، وبلغوا في ذلك المنتهى، كما جادت قرائحهم بخطب اتسمت بالبراعة والبيان الذي سمته الغالبة الإيجاز، وهو إبلاغ المعاني الكثيرة والجليلة، بأفخم الكلام وأخصره، فكانوا بذلك يسحرون بعضهم البعض، ويفتنونهم. وهو ما جعل البلاغة عندهم هي السحر الفتان. ويرجع هذا السحر وهذه الفتنة، إلى أنهم سلكوا طريقا بديعا في كلامهم، وهو ما يُعبَّر عنه بمجاري كلام العرب البلغاء.
ولعل هذه المجاري، أو القواعد اللغوية والبيانية، هي التي كانت محط بحث ودراسة واستقصاء، في قرون الإسلام الأولى، والتي استخرج منها النقاد، والباحثون البيانيون، المباحث الأولى للبلاغة العربية، وسعوا بذلك إلى تأسيس علم البيان والبلاغة العربية؛ أو ما عبروا عنه بالبراعة والفصاحة والبلاغة والبيان، كما ورد عند عبد القاهر الجرجاني في “دلائل الإعجاز”. وتتصل هذه المعاني والدلالات بالقدرة على الإبلاغ والإفهام، فضلا عن اتسام الكلام بالروعة والجمال.
– إلى حدود عبد القاهر الجرجاني ظل مفهوم البلاغة موزعا بين عدة مصطلحات مثل ما ذكرت البراعة والفصاحة والبيان. فمتى استقر علم البلاغة اصطلاحيا؟ وما المفهوم الذي أعطي له؟ وما أهم موضوعاته؟
تباين تعريف البلاغة، واختلف عند النقاد، والبلاغيين العرب، عدة قرون، ولم يستقر هذا التعريف على صورته القاعدية النهائية إلا في القرن السابع الهجري، مع السكاكي في “مفتاح العلوم”، وابن مالك في “المصباح”، وهو التعريف الاصطلاحيّ الذي ظل معتمدا بعد ذلك، خصوصا بعد تلخيصات القزويني، وسيرورة البلاغة العربية بلاغة مدرسية.
وقد تحدّد تعريف علم البلاغة اصطلاحيا بقولهم: “هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال” ويقصد بـ”الحال” المقامات الكلامية المختلفة، أو بتعبير أدق، مراعاة جمهور المستمعين والمتلقين. وتكون “المطابقة” بمعنى مراعاة الكلام للأغراض والمقاصد التي من أجلها يصاغ الكلام.
وتنقسم البلاغة، حسب هؤلاء البلاغيين المتأخرين، إلى علوم ثلاثة، وهي علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
وعرّفوا علم المعاني بأنه “علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال”، ومصطلح “أحوال اللفظ العربي”، يشير من وجه إلى سياقاته ومقاماته الكلامية، ومن وجه آخر، إلى التركيب اللغوي، والعلاقات النسقية بين الكلمات، أي النظم والعلاقات النظمية، مما يجعل التركيب اللغوي، الذي هذه أوصافه، يُتلقى بالقبول والاستحسان من لَدُن جمهور المتلقين، ويَرقى إلى درجة القول البليغ.
وعرّفوا علم البيان بقولهم: “هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه”. والمقصود بـ”الطرق المختلفة التي يورد بها المعنى” المعاني المجازية التي هي موضوعات هذا العلم، من تشبيه، ومجاز، واستعارة، وكناية.
وعرفوا علم البديع بقولهم: “هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة”. والمقصود بـ”وجوه تحسين الكلام” طرق تزيينه، وتجليته بالمحسّنات اللفظية، والمعنوية، مع مراعاة السياق، والمقام الكلامي، ووضوح الدلالة، ومن أهم مباحث هذا العلم: الطباق، والمقابلة، والجناس…
وهذه التعريفات التي تم ذكرها هي تعريفات القزويني، اعتمد فيها ما انتهى إليه التقعيد البلاغي على يد السكاكي وعبد القاهر الجرجاني، وهم من أعلام المدرسة المشرقية.
– على ذكر المدرسة المشرقية في البلاغة. يقال بأن هناك مدرسة مغربية لها تناول مختلف للبلاغة، وطرق معالجة مواضيعها. يمكن أن تبسط لنا هذه القضية.
صحيح، لقد ظهرت في الغرب الإسلامي الذي يشمل المغارب والأندلس، في القرن السابع الهجري، مدرسة بلاغية فلسفية تعد امتدادا للفلاسفة المسلمين، خصوصا الفارابي، وابن سينا، وابن رشد. واشتغلت هذه المدرسة على الدرس البلاغي انطلاقا من الميراث الأرسطي، خاصة كتابَي “الشعر” والخطابة”، ونصوص البلاغيين العرب في المشرق العربي.
والملاحظ أن هذه المدرسة ابتعدت كثيرا عن الثلاثية التعليمية المعروفة في أقسام البلاغة، (المعاني/البيان/البديع)، وأسست لصناعة نظرية بلاغية فلسفية، مبنية على أسس علمية ومنطقية، وتعطي قوانين كلية تنضبط بها جزئيات الأساليب البلاغية المندرجة تحتها.
– من هم أعلام هذه المدرسة؟ وما أهم مصنفاتهم البلاغية؟ وما تصورهم الفلسفي للبلاغة؟
من أعلام هذه المدرسة أبو الحسن سهل بن مالك، وأحمد ابن عميرة المخزومي، وحازم القرطاجني، والقاسم السجلماسي، وابن البناء العددي المراكشي، وابن رشيد الفهري السبتي، وابن القوبع…
ولعل أولى مصنفاتهم في هذا المضمار كتاب “التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات” وهو كتاب رصده صاحبه أحمد بن عميرة للرد على علَم من أعلام المدرسة المشرقية، وهو ابن الزمْلَكاني، مُسَفِّها فيه مذهبه في الدرس البلاغي الذي بناه، وأسسه، على النحو واللغة، وانتصر فيه ابن عميرة في المقابل للفلسفة والمنطق، في تناول قضايا البلاغة وموضوعاتها.
ويليه كتاب حازم القرطاجني “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” وتناول فيه الظواهر الشعرية والأدبية من منظور علم البلاغة، كعلم كلي، تنطوي تحت قوانينه وقواعده الكلية جزئيات الدرس البلاغي.
وقد استوعب حازم في هذا الطرح النظري الآراء النقدية والبلاغية للمشارقة، وصاغها صياغة فلسفية جديدة ضمن صناعته النظرية في تنظيم البلاغة، وضبط مصطلحاتها، وأساليبها، منطقيا، ورياضيا.
ثم كتاب “المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع” لأبي محمد القاسم السجلماسي، وهو كتاب في الصناعة النظرية للبلاغة، اعتمد فيه صانعه منهجا منطقيا، مؤسسا على الأجناس والأنواع، وسلك مسلك الدراسة العلمية النظرية والتطبيقية، وأخضع كل المصطلحات البلاغية، والأساليب البيانية والبديعية، لطبيعة هذه النظرية الصناعية.
وبتلخيص وإيجاز شديدين، جاء كتاب “الروض المريع في صناعة البديع” للرياضي المتفلسف ابن البناء العددي، بَدَأَهُ بالحديث عن الدلالة، ثم فحَص ودرس الأساليب البلاغية ومصطلحاتها الفنية.
أما تصورات هذه المدرسة المغربية للبلاغة فقد كانت منسجمة مع منطلقاتها الفلسفية والمنطقية، وتعد فتحا جديدا في الدرس البلاغي. ونبتدئ بأحمد ابن عميرة الذي انفرد بتعريف بديع لها، لم يُنسَج على منواله من قبل، يقول فيه: “إنّها صناعة تفيد قوة الإفهام على ما يريده الإنسان أو يراد منه، بتمكن من إيقاع التصديق به، وإذعان النفس له”.
نلاحظ أن هذا التعريف يتضمن مصطلحات جديدة، تفارق المنظور المشرقي للبلاغة، منها: صناعة، قوة الإفهام، الإرادة، التمكن، التصديق، الإذعان. وتعد هذه المصطلحات شبكة من المفاهيم تؤسس للبلاغة باعتبارها صناعة نظرية.
والصناعة، عند رواد هذه المدرسة، والفلاسفة المسلمين عامة، علم يتعلق بطريقة العمل، ومنهج الأساليب البلاغية في الدلالة على بعضها البعض. وهكذا فإن قوة الإفهام تتصل بالظهور والبيان، والفهم والتفهيم، مما يدل على ضرورة الوضوح، والبيان، في الدلالة.
ونسجل حضور المتكلم والمتلقي في هذه الوضعية الدلالية التواصلية، باعتبار المتكلم صانعا للقول البلاغي، والمتلقي متأثرا بهذا القول، على جهة الإقناع والإلذاذ. ويحصل هذا القصد بفعل عمليتي التصديق والإذعان، أي الإقناع الفكري، والانفعال الوجداني.
وينسجم هذا التعريف للبلاغة غاية الانسجام مع تصور الفلاسفة المسلمين، فقد ذكر ابن رشد الحفيد أن القصد من القول البلاغي هو جودة الإفهام، مع الإلذاذ.
وعند حازم القرطاجني نلحظ أنه يستعمل في التعريف الاصطلاحي للبلاغة جهتين من النظر؛ جهة علمية، وأخرى صناعية. والعلم عنده صفة راسخة يدرك بها الكليات والجزئيات، في حين أن الصناعة تتصل بطرق بناء النظرية البلاغية. فعلم البلاغة عنده هو العلم الكلي الذي تنطوي تحت كلياته وقوانينه ضروب المتناسبات، في حين تتصل صناعة البلاغة بكيفية العمل، فتكون بالنظر إلى دلالة اللفظ على الصورة، وموقع هذا اللفظ من النفس، ثم مواقع هذه الصور في أنفُسها ومواقعها من النفوس، ثم الأشياء التي المعاني صورٌ لها، ومواقع الأشياء من النفوس.
وهكذا يطلق حازم القرطاجني صناعة البلاغة على العلاقات بين الكلمات والأشياء، والصور والمعاني، من جهة دلالة بعضها على بعض. ولا يخفى أن الخلفية التي يتحرك من خلالها في تنظيم البلاغة، وضبط صناعتها النظرية، هي الخلفية الرياضية المنطقية.
وعلى هذا المنهج العلمي المنطقي، أو الترتيب على النهج الصناعي في اصطلاح هذه المدرسة، عمل القاسم السجلماسي على وضع نظريته لصناعة البلاغة إلا أنه سلك في ذلك مسلكا آخر تمثل في توليد المصطلحات البلاغية بعضها من بعض على نهج الشجرة الفورفورية التي تنطلق في التحديد من الجنس العام إلى نوع الأنواع، مع تعيين القوانين الكلية، وتمييز كل الأجزاء المنطوية تحتها عن غيرها، بغية التعريف الدقيق لكل مصطلح بلاغي.
وقد لقّب السجلماسي هذه الصناعة البلاغية بعلم البيان وصنعة البلاغة والبديع، علما أنّ هذه المصطلحات الثلاثة لم ترد عنده ثالوثا بلاغيا، بل شبكة كبرى من الأساليب في إطار النظرية الكلية للبلاغة الأسلوبية، في إطار الأجناس العشرة العالية التي منها يتكون التركيب المنطقي للمصطلحات البلاغية، والأسلوبية، في كتابه “المنزع البديع”، والتي وصلت إلى تسعة وثمانين ومائة (189) مصطلح بلاغي، خاضع لنظريته البلاغية، وهذه الأجناس العالية هي: الإيجاز، والتخييل، والإشارة، والمبالغة، والرصف، والمظاهرة، والتوضيح، والاتساع، والانثناء، والتكرير. وهي مرتبة على النهج الصناعي، والمنطقي، ومجنسة على طريقة التشجير الشبكي.
وقد سمى السجلماسي كل مصطلح بلاغي أسلوبا، وبذلك تنتظم هذه المصطلحات البلاغية في شبكة مفهومية من الأساليب، وتضحى الصناعة البلاغية بلاغة أسلوبية، أو علم الأساليب باصطلاح السجلماسي، في إطار نظرية كلية اقتبسها السجلماسي من أعمال الفلاسفة والمناطقة والأصوليين وعلماء البلاغة، وتظهر مفاهيم اصطلاحية جديدة من مثل: علم البيان، صنعة البلاغة، أساليب البديع، الأجناس، النهج الصناعي، القوانين الكلية، الصناعة النظرية، ترتيب أجزاء الصناعة.
وجملة القول إنّ البلاغة عند السجلماسي أمر صناعي يدرجه في صناعة نظرية، تقصد إلى بناء قوانين وقواعد كلية، وإحصاء المصطلحات والأساليب البلاغية المندرجة تحتها.
وعلى هذه الشاكلة اشتغل ابن البناء العددي في كتابه “الروض المريع في صناعة البديع”، ولم يرد مصطلح البديع عنده ولا عند سميّه السجلماسي كمحسّنات، وتزيينات لفظية ومعنويّة، كما هو الشأن عند السكاكي والقزويني، بل كظاهرة صناعية بلاغية ترادف علم الأساليب.
ينتظم علم البلاغة عند ابن البناء في إطار الدلالة، أي دلالة القول البلاغي على المعنى المقصود، ومن الجهة الصناعية إلى الاستدلال بالألفاظ على معانيها. يقول ابن البناء في تعريف البلاغة “هي أن يعبر عن المعنى المقصود عبارة يسهل بها حصوله في النفس، متمكنا من الغرض المقصود”.
وهكذا يلتقي ابن البناء، والسجلماسي، في المقصدية من علم البيان وصناعة البلاغة، وفي القوانين والقواعد الكلية التي تنحصر تحتها المصطلحات، والأساليب البلاغية، من خلال نهج صناعي يفرّع جزئيات بديعية وبيانية محددة من قوانين كلية عامّة.
لقد وظّف أعلام هذه المدرسة البلاغية في نهوجهم الصناعية المنطق، والرياضيات، والفلسفة، ومارسوا التفكير النظري، والاستدلال المنطقي، والبرهنة الرياضية، وألّفوا وَفق هذه الرؤية الفلسفية مصنفات رائدة في بابها، في استقلالية علمية ومنهاجية عن اجتهادات علماء البيان والبلاغة في المشرق العربي، على اختلاف منازعهم وتياراتهم البيانية والبلاغية.
– يطرح ابن خلدون رؤية مغايرة تتمثّل في أن المشارقة أقوم من المغاربة في علمَي البيان والبلاغة، وأنّ المغاربة إنما برعوا في علم البديع فقط. إلى أي حد تصدق هذه الدعوى الخلدونية؟
هذه قضية شائكة طرحها ابن خلدون في مقدمته، عند بيانه لعلوم الملّة النقلية والعقلية، ضمن موسوعة شاملة للعلوم التي ظهرت في تاريخ المسلمين لعهده، ومن هذه العلوم علم البيان.
وقد أعطى ابن خلدون للمشارقة في هذا العلم قصب السبق، والقوامة على المغاربة، خصوصا في علمي البلاغة والبيان اللذين يتصفان بالدقة، والعمق، والغموض. مؤكدا أن المغاربة إنما اختصّوا من أصناف علم البلاغة بعلم البديع، لسهولة مأخذه، وأنه أداة للتزيين والتحسين، ففرعوا له الألقاب، وعددوا الأبواب. وذكر من هؤلاء الذين ألفوا في البديع ابن رشيق القيرواني.
وقد فسّر ابن خلدون، أو بعبارة أدق برّر هذه القِوامَة بناء على نظريته في العمران البشري، لأن المشرق أوفر عمرانا من المغرب، وإنّما توجد الصنائع الكمالية، ومنها العلوم اللسانية، في العمران.
إن هذا الترجيح لكفة المشارقة على المغاربة في علمي البلاغة والبيان، إنما يرجع في المقام الأول إلى نظرية ابن خلدون في العمران البشري، أي إلى طبيعة ثقافته السياسية والاجتماعية التي تهتم، من بين ما تهتم به، بالمسألة الثقافية، والظواهر اللغوية والأسلوبية، وهو رأيٌ انطباعيٌّ أقرب إلى الظن والاحتمال منه إلى العلم واليقين؛ لأن هذه المقارنة بين أهل المشرق وأهل المغرب في هذا الفن، لتكون علمية لا شِيَة فيها، ولا مطعن، وَجَبَ أن تنطلق من المقارنة بين نصوص ومؤلَّفات المشارقة والمغاربة في هذا الفن، وفق معايير النقد الأدبي والأسلوبي.
أضف إلى ذلك أن ابن خلدون لم يذكر من مؤلفات المغاربة سوى “العمدة” لابن رشيق، وهو كتاب في علم الأدب، شعرا ونثرا، وفيه شذرات بلاغية وبديعية، ولا يمكن أن يقارن ألبتّة بـ”دلائل الإعجاز” لعبد القاهر الجرجاني أو “مفتاح العلوم” للسكاكي. ولعل ذكر ابن خلدون لابن رشيق القيرواني إنما يرجع إلى شهرة هذا الأخير، وإلى مؤلفه الذائع الصّيت، وإعجاب المغاربة والمشارقة – على حدّ سواء – بنهج ابن رشيق البديع في التأليف، وجمع شتات علوم الأدب والبلاغة، مع حسن التمثيل لكل ظاهرة أدبية، أو اصطلاح بلاغي.
والملاحظ في هذه الموازنة الخلدونية بين المشارقة والمغاربة غيابُ مؤلفات المغاربة الأصلية في البلاغة في عصره، أي القرن السابع الهجري، ونقصد “تنبيهات” ابن عميرة، و”منهاج” حازم، و”منزع” السجلماسي، و”روض” ابن البناء، وهي مصنفات تتمرد على التقسيم التقليدي للدرس البلاغي (البلاغة / البيان / البديع) الذي حاكمهم ابن خلدون على أساسه، وجعلهم مختصين بالصنف الثالث، أي البديع، دون الصنفين الأوّلين، البلاغة والبيان، اللّذين قصر التفوق فيهما على المشارقة، مما يدل على أنّ ابن خلدون كان رهين التصور المشرقي للبلاغة، لا يعرف سواه، وأنّه لم يطّلع على منجزات معاصريه، ومصنفاتهم النقدية في البلاغة.
وقد بيّنا، من قبل، بما لا يدع مجالا للريب، أنَّ مؤلفات المغاربة البلاغية أسست لصناعة نظرية بلاغية فلسفية، مادتها التراث الأدبي واللغوي، والبلاغي والفلسفي، وتصورها المنهجي المنطق والرياضيات، مما جعلهم يشيّدون معمارا بلاغيا شامخا يقوم على قوانين بلاغية كلية تندرج تحتها مصطلحات وأساليب بلاغية ونقدية، في خروج واضح عن التقسيم الثلاثي للبلاغة الذي شيّده المشارقة ابتداء من القرن الخامس الهجري مع عبد القاهر الجرجاني، مرورا بالقرن السابع وما بعده مع السكاكي، وابن مالك والقزويني.
وبالرجوع إلى ابن خلدون، نتساءل بعد الفحص النقدي للصنعة البلاغية المحكمة في مصنفات المغاربة، المبنية على الكيفية والأساليب في البيان، والمرتبة على النهج الصناعي والشبكي: هل صعبت على المغاربة مآخذ البلاغة والبيان لدقة نظرهما وغموض معانيهما!؟
أم أن المغاربة، ونقصد على الخصوص حازم والسجلماسي وابن البناء، ومن تقيَّلَهم من أمثال ابن رشيد وابن القوبع، جددوا النظر النقدي في علم البلاغة، وصناعتها من خلال مفاهيم فلسفية عميقة، ودقيقة، في إطار صناعة نظرية يُعَدّ البيان، والبلاغة، والبديع، فيها ظواهر جمالية وأسلوبية، ينتظمها علم راسخ يسمى: علم الأساليب؟
إن ابن خلدون في هذه الدعوى التي ادعاها لم يخرج في تفريعه للبيان عن التقسيم التقليدي المشرقي: (البلاغة – البيان – البديع)، عند حديثه عن الأصناف الثلاثة من علم البلاغة، وحاكم المغاربة بهذه الخلفية النظرية التصورية، وبذلك حشرهم في زاوية ضيقة، علما أن الأمر واسع، وأن المغاربة بنوا نظرية بلاغية على أسس فلسفية ومنطقية ورياضية بطريقة مفارقة للطرح المشرقي.
وإذا كانت اصطلاحاتهم غلبت عليها أسامي البديع، من مثل: طرق البلاغة وأساليب البديع، وقوانين البيان وأساليب البديع، وصنعة البيان والبديع، إلا أن هذه الاصطلاحات عندهم لم تكن تفيد أي ترتيب، أو تبويب، إنّما كانت تنتظم شبكة كبرى من الأساليب البيانية، والبديعية، في إطار نظرية كلية للبلاغة، أو ما أطلق عليه حازم القرطاجني العلم الكلي الذي هو علم البلاغة.
تعليقات