قراءة في شعر زين العابدين الضبيبي
قئة المقال: | مقالات |
---|
بمناسبة العيد الوطني الـ 59 لثورة الـ 26 من سبتمبر المجيد
مثَّلت ثورة السّادس والعشرين من سبتمبر عمق الوعي منذ فجر ذلك اليوم الذي نَذَرَ فيه الأبطال الأحرار أنفسهم فداء لهذا الوطن فنالوا شرف الخلود لدى أبناء اليمن في الداخل والخارج؛ لمّا حققوا أعلى درجات الوعي في جميع المستويات؛ ونهضوا في ذلك اليوم المبارك لتخليص الشعب من قيود الرجعية الظلامية التي جثمت على شعبنا اليمني ردحًا من الزمن؛ فشارك في الثورة الأحرار من كل فئات المجتمع اليمني، كلٌّ بما لديه؛ حتى الشعراء كان لهم نصيبُهُم الأوفرُ في بعث الروح المعنوية والثقافية زيادةً في ترسيخ الوعي الجمعي بأهمية التخلُّص من قيود الظلام والخروج إلى نور العلم والتعليم والحياة والتطبيب، ومعالم الحياة الحضارية التي حُرِمَ منها شعبنا لفترات زمنية متعاقبة جعلته في منأى عن العالم؛ ومواكبة التقدم في كل مجالات الحياة.
واستمرارًا لهذا الوعي مازال أبناء اليمن ينافحون عن ثورة سبتمبر المجيدة؛ في مختلف الأصعدة، حاملين لواء مجدها النوراني البهي، وتتجلى هذه المنافحات في نماذج كثيرة؛ منها نموذج الشعراء المعاصرين، وفي هذا المقام سنتلمس هذا الدفاع والمنافحة في أبهى صورة عند الشاعر المعاصر زين العابدين الضبيبي الذي عبّر في مقطوعةٍ شعريّةٍ كنموذج عن مجدِ سبتمبر وما تضمنته هذه الثورة من عزة وكرامة، فأتت هذه المقطوعة الشعرية ذات غاية تنويرية إقناعية فضلا عمّا تضمنته من بُعدٍ حِجاجي يتركز في المقدمة التي استهلّها الشاعر -بالتوكيد- عن فضل ومزايا ثورة سبتمبر “إن أيلول لنا آخر أسوار الكرامة”؛ فجعل الشاعر هذا الافتتاح محورًا (باراكرام) حد تعبير محمد مفتاح، وبقية القصيدة شرحًا له، واختتمها بنتيجة ما حققته ثورة سبتمبر لشعبنا اليمني من فخر التقدم والانفتاح على العالم، وأسّست لدستور حياة يهتدون به في كل الأمور بين الأمم بقوله: “إن سبتمبر فخرٌ وكتابٌ من حنين، وبهِ يعلو على هامة الشمس الجبين، وهو سيفٌ أبديٌّ فوق رأس الظالمين، وهو للأمة دستورُ حياةٍ أبدًا في العالمين”؛ اعتمد الشّاعرُ في إيصال رسالته على كثير من الأدوات والأساليب والروابط اللغوية التي أكّد بها غرض القصيدة في سبيل تعزيز الفكرة وزيادة إقناع الجمهور المتلقي ومن تلك الروابط “إن أيلول، إنه الصبح، وإن سبتمبر، وأسلوب الارتباط/الاقتران الشرطي (إن تداعى فسنحيا حطبَ الذل)؛ وزاد التوكيد بالجمل المعطوفة (وسنحيا في سجون الخوف، والجوع، وأغلال الإمامة) قَصدَ بذلك بيان مساوئ الإمامة، والاهتمام بالتقديم والتأخير والحصر والقصر(وبه، لا بسواه)، وأيضًا التأكيد باستعمال أفعال الأمر: (عظِّموا، وارفعوا، واجعلوا، وانقُشوا، فلتعيشوا، واحرسوا)، وإضافة لما في أفعال الأمر من جزم في تأدية الفعل ومباشرته فإن الشاعر اختزل فيها دلالات كثيفة بما يحمله كل فعل من دلالات بنيته الاشتقاقية وصور تعبيرية عن المشهد الذي أراد تأكيده للمتلقي.
ومما جعل القصيدة أكثر قربًا من فَهمِ الجمهور أنها جاءت على غِرار قصائد وأغاني أعياد الثورة اليمنية لاسيما قصيدة (هدّمَ الشّعبُ السُّجونَ)، لعباس الديلمي، التي غنّاها أيوب طارش، وما لتلك الأغاني والقصائد من وَقعٍ خاصٍّ في أسماع وأذواق المتلقين، وارتباط ذلك بالعاطفة والانفعال الوجداني الذي سرعان ما يهتزُّ لها الشعور جذلًا؛ فلا يملك إلا أن ينصت ويصغي سمعه تأثُّرًا وعشقًا وطربًا إلى درجة الانسلاخ من واقعه المعاش كمن يتأثر ويتلذذ بالنصوص المقدسة إلى درجة عدم الشعور مادام في حضرته مصغيًا، فلا يشعر بأي شيء لشدة تأثره بما يُتلى عليه، فيتمكن المتلقي من قبولها بدرجة أكثر من غيرها.
أما غرض القصيدة فلم يخرج عن أغراض قصائد شعراء الثورة، ومَنْ أتى بعدهم وبخاصة القصائد التي عُنيت بالأوضاع اليمنية فجاءت كلها ذات غرض تنويري إقناعي قصد استنهاض الهِمم، ولهذا تُعدُّ القصيدة متدادا لهذا التيار الحر؛ ووزنها وموسيقاها على غِرار أوزان ما سمعه الجمهور فلم تنبُ عن أسماعهم؛ فسرعان ما يندمج معها سمع المتلقي عند سماعها لأول وهلة ويتفهم مقاصدها وأغراضها دون الحاجة إلى تأويلها، وهذا ما يمكنها أن تكون مقبولة بدرجة أكثر من غيرها لدى العامة والخاصة، وهي مزيّةٌ جيدةٌ في تأدية غرض الإقناع، وتبني الفكرة التي يطمح إليها الشاعر، فلم تحد عن أهداف ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في خلق مجتمع واعي متحضر، متسلح بالعلم والمعرفة، مع احترام الآخر، والتمسك بمبدأ الحرية والكرامة التي أرساها الأحرار في فجر السادس والعشرين من سبتمبر، وقد عبّر الشاعر عن ذلك بقوله:
“إن أيلول لنا آخر أسوار الكرامةْ
إن تداعى
فسنحيا حطبَ الذُلِّ
إلى يومِ القيامةْ
وسنحيا في سجونِ الخوفِ
والجوعِ وأغلال الإمامة”
نلحظ هنا كيف شَبَّه الشاعر ثورة سبتمبر في هيئةِ سورٍ، وأيُّ سورٍ إنه آخر أسوار العزة والكرامة، وهي صورةٌ تجسيديةٌ توضح أهمية ثورة سبتمبر للإنسان اليمني (والمقصود هنا النظام الجمهوري)، فكأنها سورُ بيتك الوحيد؛ خاطب الشاعر هنا كلَّ فردٍ حتى يستشعرَ الإنسانُ اليمني أهميةَ هذا السور الذي إن تهدَّم انكشفت عورته وأصبح منبوذًا في العراء؛ وسيحيى حياة الذلِّ؛ وسيكون حطبَ الهوانِ والعبوديةِ حتى القيامة، صورةٌ تستنهض هِممَ الأحرارِ؛ وتستنقذ نزوات الأشرارِ، ممن يستهدفون سبتمبر المجيد، ولم يكتفِ الشّاعر بهذه الصورة؛ بل عزّزها بصورةٍ أخرى تبيّنُ قتامة الحياة خارج رحابة سبتمبر، فقال: “وسنحيا في سجونِ الخوفِ، والجوعِ وأغلال الإمامة”؛ صورة اجترّها الشاعر من قوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، وكأننا بدونها في سجنٍ من الخوفِ والجوعِ، فضلا عن قيود الإمامة البئيسة، التي أضفت على حياة الناس بؤسًا كبيرًا، وهذه صورةٌ تبيّنُ أعظم نعمتين أنعم الله بهما على بني الإنسان، وتمتع بها شعبنا في ظل نظام الجمهورية التي أتاحت لهم الخروج من الظلام إلى النور، ومن حياة الجهل إلى حياة العلم والتعليم المجاني، ومن الأمراض والأوبئة والتعمية إلى الطب والتطبيب العلمي الصِرف، ومن العنصرية إلى الحرية والاستقلالية التامتين.
ولمّا كانت هذه فضائل سبتمبر، نادى الشّاعر بتعظيم أبطالها ورجالها لما لهم من قيمة كبيرة في نفوس أبناء الشعب اليمني الواحد بما صنعوا من مجدٍ عظيمٍ يتمتع به كلُّ أبناء الوطن فقال:
“عظّموا أبطال أيلول رجالاً
صنعوا الحق المبين.
مَنْ سواهم كسروا القيدَ وكانوا
أملَ المستضعفين”
عدّد الشاعر مناقب الثّوار الأحرار ومنها: صناعة الحق الظاهر الواضح، وقهر البغي والظلم، وكسروا القيد قيد الإمامة فكانوا أملَ الضعفاء والمستضعفين الذين عانوا من وطأة الحكم الرجعي الكهنوتي الظالم..، وهي صورة استمدها الشاعر من أبي الأحرار الزبيري حين قال: “فلا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر”.
ثم أكّد الشاعر برفع راية سبتمبر الغراء؛ كناية عن رفع لواء الجمهورية وأن يبقى أبدًا مرفوعًا في كل أرجاء الوطن بقوله:
“وارفعوا رايته الغرا لنحيا
بسلامٍ آمنيين
واجعلوا سبتمبر الأجدادِ سوطاً فوق ظهر المفسدين.
وانقشوا أهدافه بينَ الحنايا
باعتزازٍ ويقين
وبهِ لا بسواهُ فلتعيشوا مؤمنين”
استعمل الشاعر أفعال الأمر “ارفعوا رايته، واجعلوا، وانقشوا، فلتعيشوا مؤمنين” لِيُفهِمَ جمهور المتلقين بأن الأمر لا جدال فيه ولا مواراة، ولا مداهنة في أدائه؛ وجعل رايته غراء كناية عن الجمال والنقاء والبياض والصفاء، وإذا كان الشيء بهذه الصفات فما عليك أيها الإنسان إلا أن تصونه وترفعه عاليًا، لما له من نفاسة في الحياة، وعلّل ذلك بقوله: “لنحيا بسلام آمنين” مناط كل ذلك لكي يحيا الإنسان اليمني بشموخٍ وعزٍّ وكرامةٍ لا مثيل لها في ما سوى النظام الجمهوري العادل بكل مكتسباته ومقدراته.
وبعد أن يتسنى لكم رفعه عاليًا اجعلوا سبتمبر الأجداد سوطًا؛ أوصى الشاعر بني جلدته بعد أن يتمكنوا من إقامته أن يضعوا حدًّا لكل من تُسوّل له نفسه المساس بنظامه، أو العبث بأيٍّ من مقدراته، أو الإفساد فوق أرضه وتحت سمائه، فضلا عن تعليم أهدافه لكلِّ جيلٍ صاعدٍ، ولم يكتفِ بهذا التعليم فقط؛ بل أوصى أن ينقشوا أهدافه وتعاليمه ومزاياه بين حنايا وضلوع كل طفل يدب على أرضه لكي يعلمَ مجدَهُ، ويعرفَ قَدرَهُ فيرفعه فوقَ القِممِ؛ بكلِّ فَخرٍ واعتزازٍ، ويقينٍ راسخٍ، وكل ذلك من أجل أن تعيشوا بسلامٍ وأمانٍ، استعمل الشاعر هنا أسلوبي التقديم “وبه”، والحصر والقصر “لا بسواه” للاهتمام به؛ وتأكيدًا للمتلقي أن الحياة بدونه لا معنى لها، فلتعيشوا مؤمنين بسبتمبر لا بسواه، ثم كرّر استعمال فعل الأمر ليؤكد لأبناء الوطن أهمية هذه الثورة وجسامة تضحيات أبطالها الأحرار بقوله:
“واحرسوا أيلولنا الخالد
من كل فلول المجرمين
من بقايا كهنوتٍ ظالمٍ
دون هدىً دُنيا ودين.
إنه الصبح الذي أشرق في
أرضنا وغدا فينا مكين
وهو الحلمُ الذي أبدعه
شعبنا الحرُ بعزمٍ لا يلين
إن سبتمبر فخرٌ وكتابٌ من حنين
وبهِ يعلو على هامةِ الشمسِ الجبينْ.
وهو سيفٌ أبديٌّ فوق رأسِ الظالمين.
وهو للأمة دستورُ حياةٍ أبداً في العالمين ”
اشتق الشاعر فعل الأمر (واحرسوا) من الحراسة قصد التأكيد على حفظه وصونه؛ والسهر على حمايته؛ ومنع الغير من التصرف في مكتسباته ومقدراته، وحفظها من عبث العابثين وإفساد المفسدين، كل هذه الدلالات اختزلها الشاعر في فعلٍ واحدٍ، وصورةٍ واحدةٍ حين جسّدَ أيلول في هيئة الشيء المحروس المصان.، من كل فلول المجرمين، أي من كل فرد عابث ومجرم ومرتزق ومجرد من الإنسانية لا يؤمن بهذا الوطن ولا بصونه ولا بكرامة أبنائه وعزتهم، وكذا “من بقايا كل كهنوت ظالم”، نلحظ هنا كيف جعل الشاعر (كل المجرمين) في كفة، و(بقايا كل كهنوت) في كفة أخرى، ووازَنَ بينهما، لما لكل فئة من تأثير سلبي على ثورة سبتمبر المجيد، تأثير لا يعتمد على هدى في دُنيا ولا دين.
ثم استأنف الشاعر قوله بوصف سبتمبر “إِنَّهُ الصبحُ الذي أشرق فينا” فشبّهه بصبح أبلج أغر طلع على البشرية في ضياء وبهاء لا مثيل له ولا يضاهيه شيء في شبه الجزيرة العربية، صبح منتظر بعد ظلامٍ داسمٍ، وليلٍ حالكٍ، وظلمِ أفاعٍ جائرٍ، لحِقبٍ زمنيةٍ طويلةٍ عانا منها شعبنا اليمني العظيم وما زال، حتى طلع هذا الضوء الساطع “وغدا فينا مكينا”، أي تمكن من الطلوع والسطوع والإضاءة حتى اكتمل ضوؤه الساطع في أرضنا، وتمتعت به الأمة اليمنية، تمتعوا بصبحٍ لن ينسوه أبدَ الأبدينَ.
ثم أخذ الشاعر بتثنية الوصف فقال عنه: “إِنَّهُ الحلمُ الذي أبدعه شعبنا الحرُّ بعزمٍ لا يلين”، فكان حُلمًا يحلمُ كلُّ فردٍ حُرٍّ أن يتحقق، وفعلًا حقّقهُ الأحرارُ الصادقون بفعل عزيمتهم الشديدة التي لا تلين، وهذا امتداد لثقافة وعزيمة أجدادنا اليمنيين (سبأ وحِمير) حين قالوا لملكتهم: “نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد”.
ثم عقّب ثالثة بوصفه بأنه فخرٌ وكتابٌ من حنين، جعل الشاعر سبتمبر فخر العزيمة اليمنية الصادقة، ودستور حياتهم المجيدة، التي طالما حنّوا إليها حنين الأم المرضة لابنها بشغف وتطلع كبيرينِ، وقد أشار الشّاعرُ إلى أنه “كتاب”، يقصد بذلك دستور جمهوريتهم التي نسجوها من دمائهم الزكية وخلّدوها لأبنائهم وللأجيال المستقبلية جيلا بعد جيل، نسجوها بحنين وشوق لا يضاهى ولا يقارن بشيء، نظرًا لما قاسوه وعانوه وذاقوا مرارته في ظلِ حكمٍ طاغٍ باغٍ لا يؤمنُ بالحرية ولا بالتقدمية، ولا بالتعليم المجاني، ولا بالتطبيب العلمي، وبهذا الدستور دستور سبتمبر سيعلون به على هامة الشمس، كما أوضح الشاعر للجمهور بأن سِرَّ عُلوهم وصعودهم وتقدمهم في الحياة ومنافسة الأمم يكمنُ في هذا الكتاب، وهذا الدستور المبين الواضح الذي لا مِراء فيه ولا جدال ولا فوارق طبقية أو عنصرية بين أبناء الأمة اليمنية.
ثم اختتم الشاعر وصفه “بأنه سيفٌ أبديٌّ فوقَ رأسِ الظالمين” فجعله سيفًا مُصلتًا على كلِّ ظالمٍ لا يؤمن به، ولا ينتهج سبيله، ولا يسير في ركابه، إنه بحق دستور حياة أبدي في العالمين، وبين الأمم، فهو مشروع حياتنا، ومستقبل أبنائنا، في كل أمورِ الحياةِ، وبينَ الشُّعوبِ.
تعليقات