قراءة تأويلية في القصيدة السياسية عند البردوني
قئة المقال: | مقالات |
---|
بمناسبة ذكرى وفاته الثانية والعشرين
البردوني كتعريف موجز به؛ فهو نكبةُ أَبيهِ، وَشَفعُ أَخيهِ، وسِرُّ سَعادةِ النّاسِ، ومِن شُهرةِ اسمهِ لا يُسمَّى، فجاء كوَتَرٍ ذي نَغَمٍ وَصَوتٍ فَريدَينِ؛ أدَّى إلى ترنيم الصوت الشعري في ظلِّ التّعدُّديةِ المختلفة. أما القصيدة السياسية عند البردوني فاتسمت بالتحول من صراحة غرض الهجاء- كما كان يحدث في النقائض بين جرير والفرزدق؛ أو بين بشار وحماد – إلى ديبلوماسية القول إن صح التعبير؛ أو القدح/النقد السياسي بالمفهوم الذي تبنّاه الشاعر نفسه في حديثٍ مُسجّلٍ له؛ فأخذت القصيدة عنده شكلًا آخر؛ والغايةُ من ذلك أن القصيدة السياسية بصفة عامة تؤدي دورين/غايتين: الأول إيقاظي “إقناعي”، ويستخدم هذا الغرض الإقناعي لاستمالة المتلقي، استطاع الشاعر بواسطته استعطاف المستمع والتأثير فيه والظفر بإقناع (الجمهور المتلقي)، وهو ما يسمى الإيطوس “Ethos” عند “هنريش بليت”، كما قد يستخدم الإقناع خارج النّص فيمارسه أي إنسان كالفلاح، والتاجر، والطفل، والمرأة..، أو الشاعر، في سبيل توصيل رسالته الأخلاقية؛ وهدفه خلق المتعة الجمالية للجمهور والتنفيس عنهم، وفي نصوص البردوني ترددت الألفاظ التي تعكس واقع الحياة، واستعملها رمزًا لشواهد الحياة السياسية ورمزًا للشواهد التي لا يملك الإنسان القدرة على البوح بها في الواقع؛ فكانت محفِّزًا للوعي الجمعي، وَمُتَنَفّسًا واسعًا؛ لأنه يعبر عن مكنون صدورهم، وخلجات قلوبهم، ومعاناة أفئدتهم وجوارحهم.
وأما الثاني فيؤدي دورًا قوميًا واجتماعيًا وثقافيًا؛ وهو من أهم العوامل التي كان لها الأثر والتأثير الأبرز في توجيه شعر البردوني نحو تبني الأوضاع في اليمن ونقد الحاكم أيًا كان توجهه وأيًا كان حزبه؛ وقد تولَّد هذا الاحساس من نشأته في بيئةٍ ريفيةٍ فقيرةٍ لا يجد فيها مقومات الحياة، ومن سوءِ حظهِ أَنْ أصابه مرضُ الجدري فأدّى إلى سَلبِ نِعمةِ البصر منه، فلم يَنعَم بحلاوة الإبصار، وحلاوة الضياء، ونضارة المناظر والجمال الرؤيوي في الحياة، فجاء شعرُهُ تَعبيرًا واقعيًا عن ملموسِ الحياةِ التي عاشرها، بصورٍ شعرية كثيفة، ودلالات أكثف، وألفاظ مُتخيَّرة طيّعة نقلت تلك الدلالات والصور بشكل أجود وأكثر دلالة من لغة الحياة الطبيعية، كلُّ ذلك أدَّى إلى صقل موهبته الشعرية وجعل اللغة أطوع له من غيره؛ فسخَّرَها في خدمة الأمة القومية، بعيدًا عن أيدلوجيا المذاهب والأهواء التي ينطوي ويتقوقع تحتها بعضُ الكُتّابِ والشُّعراءِ وَيرغونَ في ظلِّ كابوسها الظلامي البئيس، أما البردوني فقد كان كنحلة لم تجد ما تأكله من رحيق الأزهار فاعتصرت ما بداخلها وأنتجت عسلًا مصفى فيه شفاء للناس، عسلًا خاليًا من صفاتِ الكراهية والبغضاء للذّواتِ، في مقابل نقد الصفات اللئيمة والعنصرية البغيضة التي تعكِّرُ صَفوَ حَياةِ النّاس، في ظلِّ جغرافيا النَّفسِ المنبسطة والسماءِ الهامية، والأَرضِ الممتدّةِ، ومما قاله في ذلك:
عيدُ الجلوسِ أَعِرْ بِلادَكَ مَسمَعًا**تَسألُكَ أَينَ هَناؤها هل يوجَدُ
تمضي وتأتي والبلادُ وَأَهلُها**في ناظرَيك كما عهدتَ وتعهدُ
فيمَ السكوتُ ونصفُ شَعبُكَ ها هنا**يَشقَى؛ وَنِصفٌ في الشّعوبِ مُشَرَّدُ
يا عيدُ هذا الشَّعبُ ضاعَ نُبوغُهُ**وَطَوى نَوابِغَهُ السُّكونُ الأَسودُ
تحت الرَّمادِ شَرارةٌ مَشبوبَةٌ**وَمن الشَّرارةِ شُعلَةٌ وَتَوقّدُ
الشَّعبُ أَقوى مِن مَدافِعِ ظالمٍ** وَأَشَدُّ مِن بأسِ الحديدِ وَأَجلَدُ
والحقُّ يَثني الجَيشَ وَهو عَرَمرَمُ**وَيَفِلُّ حَدَّ السَّيفِ وَهو مُهَنَّدُ
مثَّلَ هذا النصُّ نقدًا لاذعًا للأوضاع التي كانت ترزح تحت وطأة الحاكم؛ بل قدحًا وقذعًا سياسيًا ومعارضات شديدة؛ باستعمال أداة اللغة، والشعر على رأسها ومن أشد أسلحتها، فهو شعرٌ هجائي، ولكنه ليس كما كان يحدث بين فردين، أو قبيلتين، وإنما هجاءٌ يمس الأوضاعَ في سبيل شحذ الهمم لتحقيق أوضاعًا أفضل، وحكمًا أحسن، وخلق مجتمع أوعى؛ استهلَّه بنداءِ “عيد الجلوس” مجازًا والمقصود مخاطبة الحاكم آنذاك قصد شد انتباهه، وللإشارة إلى أنه صنم كالكرسي لا إجابة منتظرة منه، وثنَّى بفعل أمر الإعارة “أَعِرْ بلادَكَ مسمعًا” إذ مثَّلَ به نوعًا من التوبيخ والاستهجان، حين جعل الحاكم أصم وأبكم عمّا يجري في الشعب وما يعانيه من فقر وبؤس، ثم أردف بسؤاله: أين هناؤها هل يوجد؟ فجسَّدَ البلاد في هيئة متظلمة تبحث عن إنصاف وعن حياة يملؤها الهناء والسعادة ممن لا يملكها، فهل يوجد لديك ما تلبي طلبها، أم أنك تمضي لحال سبيك، ثم تأتي وهي على سابق عهدها لم يتغير شيء فيها، ثم ثنّى له بسؤال توبيخي: فيمَ السكوتُ ونِصفُ شَعبُكَ يَشقَى؟ وَنِصفٌ في الشّعوبِ مُشَرّدٌ؟ أخذ في محاكمة المسؤول عن سكوته أمام شقاء الشعب وتشرُّدِهِ، فلم يجبه، فكرّرَ عليه النداء “يا عيد” للتأكيد وفضل اهتمام بهذه الحالة المتمثلة في الضياع والذل، والموت المشار إليه بـ”السُّكون الأسود”؛ وكل ذلك من جراء الفقر والأمراض والأوبئة التي تفتك به. ثم أخذ في تحذير الحاكم من سطوة الشعب وفتكه، فضرب له مثلًا بأساليب عدة، وصوَّرَ له الشعب كأنه شرارةٌ مشبوبةٌ تحت الرماد، ومنها يتولّد الاشتعال والاتقاد، والشعب أشدُّ من مدافعِ حاكمٍ ظالمٍ، وأقوى من حديدٍ لا يُفلُّ، لأنه يتمتع بالحق الذي يثني الجيش الكبير، كما يُفَلُّ أَمضى السيوف الهندية الصقيلة، ومع كل هذا القدح للأوضاع لم يتغير شيء، وكأن لم يكن، بل قيل إن الإمام كان يأخذُهُ الشِّعرُ فلا يذكرُ أَنْ يَسيءَ إلى الشّاعرِ؛ ولا يميل إلى إصلاح الأوضاع؛ وما يؤكد ذلك من طرائفهِ أَنَّهُ هجا الإمام بقصيدة منها:
لن ترحم الثّوار والهتافة**هلَّا رَحِمتَ السَّيفَ والسّيافا
أَوَما على المِقدامِ يومَ النَّصرِ أَنْ** يَرعى الشّجاعَ وَيرحَمُ الخوّافا
أَسَمِعتَ عَن شَرَفِ العَداوَةِ كي تَرى**لِخضَمِّ تَقطيعِ الرؤوسِ ضِفافا
فقال الإمام كلمته الشهيرة: “أُريدُ أَنْ يُقال: إِنَّ فُلانًا نَبَغَ في عهدي فَلَم أَترُكْ مَحسِنَةً إِلَّا هو”؛ يقصد بها البردوني، وهذه مؤرخةٌ مِن أَيامِ حياته في كتابٍ اسمُهُ “مَوكِبُ الإِمامِ النّاصِرِ”، وفي هذا النص خاطب الشاعر الإمام آنذاك بعدم الرحمة، وحضَّهُ عليها وعلى أقرب العاملين لديه “السيف والسياف”، وحضَّهُ أن يتحلَّى في يوم النصر بصفات الكرم والأخلاق وتحرير الشعب من رِبقَةِ القيود والمظالم التي يمارسها عليه؛ وهي إشارة إلى ما فعله رسولنا محمدﷺ يوم فتح مكة حين أكرم قريش بالتحرير المطلق، وكأن البردوني استلهم واجتر هذا الفعل لما له من تأثير أيدلوجي على نفسية الحاكم، فأراد تضمينه لشدِّ الذاكرة إليه، وهو ما يسمى تناصًا Intertextualite أو تفاعل نصي خارجي، ثم أستفهم منه عن مدى سماعه لـ”شرف العداوة” كي لا يحلو له فعل ما يشاء من تقطيع رؤوس الخصماء.
وثمة نماذج كثيرة في شعر البردوني يمكن أن نطلق على مجموعها “القصيدة السياسية في شعر البردوني” ومنها: “الغزو من الداخل، ونحن والحاكمون”، فالأولى تتناول أوضاع اليمن والأوضاع العربية في ظل أمة تشد بعضها بعضا؛ وما تتعرض له من انتهاكات من أذيال الحاكمين الأُصلاءِ، والثانية في أهل الحكم والساسة في اليمن، وهناك قصيدة أخرى في كل الرؤساء العرب يقول فيها:
يا ذوي التّيجانِ يا أهل الرئاسة**الجماهير لكم تفنى حماسة
والأَمانيُّ بحماكم تحتمي**وإليكم تنتمي كُلّ القداسة
وجموع الشعب لاقت فيكم**قادة النصر وأبطال السياسة
كان هذا ما روى إِعلامُكم**هل ترى هذِه الجَماهير المُداسة
جرِّبوا في الشعبِ شَعبيتَكم **واخرجوا يومًا بلا أَقوى حِراسة
نادى الشاعر الملوك والرؤساء والسلاطين والأمراء وأوضح لهم بأن جموع الجماهير من شعوبهم تُفني نفسها في سبيل التصفيق والتأييد لهم، في مقابل أمانيهم التي تختبي في حماكم، ولا تكاد تخرج لترى النور وتلتقي بجمهورها المُداس، ومع ذلك فجموع الشعب اعتقدت فيكم قادة وأبطالًا، حسب رؤية إعلامكم الهادر ليلَ نهارَ، ثم عاد فنفى كل ذلك بأن تحداهم أن يخرجوا في الشعب دون حِراسة ليروا حقيقة تلك الشَّعبية المزيّفة في الإعلام الكاذب. وثمة قصائد كثيرة تتبنى هذا النقد السياسي، فبعد الثورة اليمنية قال البردوني: “خرجنا من الثورة إلى صدقة أهل الثروة”، وقال في هذا الشأن:
لكن لماذا يُغدِقونَ**أَشُمُّ رائِحَةَ المكيدة
وَأَرى مؤامَرَةً لها**شَكلُ الأُخوةِ والعَقيدة
أَأخافُ مِن كَرَمِ المُساعدِ**أَم أَخافُ مِن السَّعيدة
أوضح البردوني هنا أن كلَّ شيء لا يعطى هِبةً ولا مُساعدةً ولا دَعمًا، وإنما كلُّ من أعطى فهو يأخذ أكثر، وفي منظوره الوطني يجب أن يكونَ اليمنُ معطيًا وليس آخذًا؛ لأنَّهُ قادرٌ على العطاءِ بحكم ثَرواتِهِ الثَّرَّةِ والمترامية في جغرافيا اليمن الشاسعة؛ إلا أنها وقعت في براثن السباع من بني البشر، وما يوضح ذلك تناول الشاعر لوضع اليمن وحاكميه في قصيدة موسومة بـ”نحن والحاكمون” التي يقول فيها:
أَخـــي، صَـحـونـا كُــلُّـهُ مَــأتَـمٌ **وَإِغـــفــاؤنــا أَلَـــــــمٌ أَبـــكـــمُ
فــَهــل تَــلِــدُ الــنـورُ أحـلامُـنـا**كــمـا يَــلِـدُ الــزهـرة الـبُـرعـمُ؟
وهـــل تُـنـبِتُ الـكَـرمَ وِديـانـُنا**وَيَـخضَرُّ فـي كَـرمِنا الـموسِمُ؟
وهـل يـلتقي الرّيُّ والظّامئونَ،**وَيَـعـتَـنقُ الــكـَأسُ والـمَـبسَمُ؟
لـَنـا مَـوعِـدٌ نـحنُ نـَسعى إِلـيهِ**وَيـعـتـاقُـنا جُــرحُـنـا الــمُـؤلـمُ
فـَنمشي عَـلى دَمِـنا، والـطّريقُ،**يُـضـيّـعُـنـا والــدُجــى مُــعـتِـمُ
فـمِـنّا عـَلـى كُــلِّ شِـبـرٍ نـَجيعٌ،**تُــقَـبِّـلـهُ الــشَّـمـسُ وَالأَنــجُــمُ
في هذه الأبيات استهلَّ الشّاعِرُ قصيدتَهُ بِنداءِ الأُخوّةِ؛ وهو أَشَدُّ أَواصر القربى في المجتمع القومي، واليمني بشكلٍ خاصٍّ، والمسلمُ بشكلٍ عامٍ، لِيُنبّه السّامِعَ للإقبال عليه والاستماع والإصغاء إلى ما يقوله، ثم أخذ في إخبار المنادى بأن “صحونا كله مأتمٌ؛ وإغفاؤنا ألمٌ أبكمُ”؛ مع أن هذا الخبر معلوم ومعروف لدى السامع؛ إلا أنه أكَّدَهُ له كنوع من البيان وتعزيز الخبر لدى من يتجاهله أو يتغافل عنه؛ فجعل كلَّ صحوٍ مَأتمًا؛ وكلَّ نهارٍ تطلع فيه الشمس عويلًا؛ لا هدأه فيه، وكلَّ إغفاءة واستراحة ألمًا موجعًا؛ يعتصر الشعب كلَّ وقتٍ وآنٍ؛ فأوصل رسالة عن واقعٍ مأساويٍّ مُعاشٍ ملموسٍ لدى أَبناءِ قَومِهِ وَمجتمعِهِ؛ مازال يصدح صداها حتى اللحظة.
ثم أَخَذَ يتساءل هل تَلِدُ الأَحلامُ نورًا؟ كما تخرج الزهرة من بُرعُمِها، فتخرج غضةً طريةً لها رائحةٌ عَطِرةٌ، وهو تشبيه المعنوي بالحسي، لكي يقدمه في صورة ملموسة، فحين شبَّه الأحلامَ المعنوية بالشيء الملموس جسَّدَها على أرض الواقع ليلمسها القريب والبعيد، والسطحي والعميق؛ وهكذا أردف بسؤال ثان: هل تُنبِتُ الكَرمَ وِديانُنا؟ ويخضَرُّ في كرمنا الموسم؛ تساءل عن إمكانية أن تزهر ودياننا بالعنب؛ وهي إشارة إلى حضارة اليمن القديمة التي كانت تزخر وتتمتع بالزراعة وخاصة أشجار الكرم؛ وقد اجتر واستلهم ذلك من قوله تعالى: ﵟلَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ١٥ﵞ [سبأ: 15] ، تؤكده الرموز والنقوش التي تعج بها المتاحف والمواقع الأثرية، ثم جاء البيت الثالث علة ومناط التساؤل السابق: لكي يلتقي “الريُّ والظامئون؛ ويعتنق الكأسُ والمبسمُ”، فإذا اخضرَّت الأرضُ بالزراعةِ سيلتقي الماءُ بشفاه الظامئين من أهلها، ويعتنقان في أبهى صورة وأجمل منظر ساحر. ثم جعل هذه الصورة البديعة والأحلام المنتظرة على موعد مع أهل هذه الأرض؛ فكأنهم يسعون لتحقيق ما ووعدوا به، إلا أن الطريق غير سالك، وفي طريق كفاحهم يمشون على نزيف دمائهم من شدة المعاناة؛ والطريق -أيضًا- تاهَ بهم في ليلٍ مظلمٍ لا نجوم فيه ليهتدوا بها، وفي كلِّ شبرٍ منه نَجيعُ بطونهم؛ تُقبِّلُهُ الشَّمسُ والأنجمُ صباحَ مساءَ؛ فجعل الشمس كأنها أُمٌّ رَؤومٌ حَنونٌ بهم تواسيهم وتعطف عليهم بدفءِ حنانها، وهم يَئِنونَ من شِدّةِ الوجعِ والألمِ في وسط هذا الجو البارد المعتم، والطريق المقفر، وهذا ثمنُ الكفاح. وفي استحضاره للشمس والأنجم استئناسٌ بها كما كان يفعل اليمنيون في القِدَمِ، وإشارةٌ للإله المعبود في حضارة اليمن القديمة، والنجوم التي كانوا يستأنسون بها كسهيل اليماني، والثريا، وغيرها، ثم أخذ الشاعر ينادي كل من استحضره من رفاق الدرب، والشمس والنجوم:
سَـلِ الدرب كيف التقت حولنا**ذِئـــابٌ مـِـن الـنّـاس لا تَـرحـمُ
وتُـهـنـا وحُـكّـامُنا فــي الـمـتاه**سِــبـاعٌ عــلـى خَـطـونـا حُــوّمُ
يـَعيثونَ فـينا كَـجيشِ المغولِ**وَأَدنـــــى إِذا لَـــــوَّح الـمَـغـنَـمُ
فـَهـم يَـقـتنونَ أُلــوفَ الأُلـوفِ**ويُـعـطـيهمُ الــرَّشـوةُ الـمُـعـدِمُ
ويــبـنـون دورًا بـأنـقـاضِ مـــا**أبـادوا مـن الـشعب أو هـدَّموا
أقــامــوا قــصـورًا مـدامـيـكُها**لــُحـومُ الـجـمـاهير والأعــظُـمُ
قـصـورًا مِــن الـظُـلمِ جـدرانُها**جِـراحـاتنا اِبـيـضَّ فـيـها الـدَّمُ
أخذ يخبرهم، ويُعلِمُ الشَّمسَ الأُمَّ الرَّؤومَ بأن تسأل دربهم وطريقهم كيف التقت حولهم هذه الذئاب البشرية التي لا ترحم؛ ولم تترك رحمة الله تنزل عليهم؛ حتى تاهوا في متاه الحياة وظلماتها؛ وهؤلاء الحكام مثل السِّباع تحوم عليهم في كلِّ وقتٍ وآنٍ يعيثون فيهم فسادًا وظلمًا كما فعل مغولُ التتر؛ بل أشدّ من التتر؛ فلا يتركونهم يلتقطون أنفاسهم من شظفِ العيشِ الذي يكابدونه؛ وكلُّ همهم أن يقتنوا “ألوف الألوف”؛ وهذا رمز لمنتهى العدد، كانت العرب يقولون للعدد الذي لا يُحصى “ألف ألف”، حتى بلغ بهم الأمرُ أن يأخذوا الرَّشوةَ من المُعدمِ البائسِ الفقيرِ؛ فلا يرحمون أحدًا؛ فيبتنون بها قصورًا ودورًا؛ أُسُّها وأَساسُها من لُحومِ وعِظام جُمهور هؤلاء المُعدمينَ، قصورًا ابتنوها من الظلم حصرًا وقصرًا؛ وعلى أنقاض ما هدَّموا من معالم، جدرانُها من جراحاتٍ قد ابيَضَّت فلم يَعد فيها أَثَرٌ للدم، وهي كناية عن طول الجِراح لحِقَبٍ زمنية، وهي ترزحُ تحت وطأة الحاكم الظالم الذي لا يرحم، وفي هذه الصورة كثافةٌ شعرية اختزلت كثيرًا من الصور والدلالات والمعاناة التي عاشها الإنسان اليمني في ظلِّ حُكمٍ جائرٍ متداول ومتعاقب، فلا الشعب فاق من غفلته؛ ولا هم أكرموه بإصلاح ما أفسدوه، وقد تمثل هذا الشاعر في قوله:
أخـي إن أضاءت قصورُ الأمير**فــقُـل: تــلـك أكـبـادُنـا تُـضـرمُ
وسَـل، كـيف لِـنَّا لِـعُنفِ الطُغاة**فـعـاثوا هُـنـا، وهُـنـا أجـرمـوا؟
فــلا نـحـن نـقـوى عـلى كـفّهم**ولا هـــم كِـــرامٌ فــمـن ألــوَمُ؟
إذا نـَحـنُ كُـنّـا كِــرامَ الـقـلوب،**فـمِن شـرفِ الحُكمِ أن يُكرُموا
وإن ظَــلــمــونـا ازدراءً بِـــنـــا**فـأدنـى الـدَّنـاءات أن يَـظـلِموا
وإن أَدمَـنـوا دَمَـنَـا فـالوحوشُ**تـــعُــبُّ الــنـجـيـعَ ولا تــَســأمُ
وإن فــخـروا بـانـتصار الـلـئام**فــخُـذلانُـنـا شـــــرفٌ مُــرغــمُ
وســائـلُـنـا فـــــوق غــايـاتـهـم**وأســمــى، وغـايـاتُـنـا أعــظـمُ
فـنـحـنُ نــعِـفُّ وهـــم إن رأوا**لأدنــاسِـهـم فُــرصـةً أقــدمـوا
وإن صَـعَـدوا سُـلّـمًا لـلـعروشِ**فـأخـزى الـمـخازي هـو الـسُّلّمُ
ومــا حُـكمهم؟ جـاهليُّ الـهوى**تُـقـهـقِهُ مِـــن سُـخـفِـه الأُيّـــمُ
وأسـطورةٌ مِن ليالي “جديس”**رواهـــا إلــى تـغـلبٍ “جُـرهـمُ”
ومَـطــعَمُهم رِشـــوةٌ والـذُبـاب**أكــــولٌ إذا خَــبُــث الـمـطـعـمُ
رأوا هـدأة الـشعب فـاستذأبوا**على ساحةِ البغي واستضغموا
وكـــلُّ جـبـانٍ شُـجـاع الـفـؤاد**عــلـيـك، إذا أنـــت مـسـتـسلمُ
وإذعــانـنـا جــــرّأَ الـمُـفـسدين**عــلـيـنـا وأغـــراهــم الــمــأثـمُ
أعاد الشاعر النِّداء لِشَدِّ انتباهِ المتلقي “أخي” بكلِّ ما فيه مِن دعوة للأُخوةِ، وتلقينه خبرًا مفادُهُ: “إِن أَضاءَت قُصورُ الأَميرِ؛ فهي أَكبادُنا تُضرَمُ”، قَرَنَ البردوني عَمليةَ إِضاءة بيوت الأمراء، بحرق أكباد أبناء الشعب، وهي صورة كثيفة -أيضًا- اختزل فيها سيلًا من المعاناة طوال فترات عديدة، وأزمنة مديدة كابَدَها الشَّعبُ وَمازالَ. وَأَردفَ بسؤال جوهري: كيفَ لِنَّا لِعُنفِ الطغاة؟؛ مما جَرَّأَهم على أن يعيثوا فسادًا وإجرامًا، فلا قوينا على رَدعِهم؛ ولا هُم كِرامٌ، ولا ينتمون إليه، فأيُّنا أَلوَمُ؛ وأيًا نَلومُ..!! وبما أن شعبنا كِرامٌ بالصَّبرِ في كُلِّ المُهمّاتِ، فَمِن الأَجدرِ أن يقابلوه بالكَرمِ والإِكرامِ، وليس أن يزيدَ احتقارهم وازدراؤهم بنا، فأدنى من كلِّ هذه الدناءات أن يتمادوا في ظلمِهم وغيِّهم، ويُدمِنوا شُربَ الدِّماءِ وأكلَ لُحوم البشر، وما هذا إلا فِعلُ الوحوش التي لا تسأم من فعل ذلك؛ لأنه ببساطة زادُها وطعامُها المعتاد في الحياة، وما نصرهم إلا نصر اللئام، في مقابل خذلان الشرف والعزة والأنفة لأبناء الشعب، وأسمى غاياتِ الشَّعبِ العفاف، فجعلها صفة ثابتة في الشعب “فنحن نعف”؛ وهم إن رأوا فُرصةً لم يتوانوا عن فعل القبيح بكل وسائله التي تحدَّثَ عنها كأخذ الرشوة من مُعدمٍ بائسٍ..؛ إلى أكبر وسائله في صعود العروش والقصور بالسلالم والطرق غير المشروعة، وهي إشارة للاستقواء بالسلاح والعنف المفرط؛ فيعد هذا من أخزى أفعالهم التي ينتهجونها..
ثم أخذ الشاعر يصفهم وحكمهم، بأنه جاهلي النزعة؛ تضحك من سخافته الأرامل؛ وما هذا الحكم الظالم بأفضل من ظلم “عِمليق” لقبيلة “جديس” البائدة، التي روت أخبارها بعض كتب الأدب مثل الكامل للمبرد، وفي استحضار رمز “عمليق” لفتُ انتباهٍ إلى العادات السيئة التي كانت تُمارسُ في بعض المجتمعات بإيحاء أو إيعاز من الفقيه مثل استكشاف بكارة البنات المقدِمات على الزواج بالبيض؛ أو دفعهن للخروج من كوة صغيرة في جدار، وهي طرق منبوذة في العُرفِ اليمني السَّائدِ إلا أن ثقافة الوالي كانت مفروضة عليهم من باب التعمية والإيهام. وأما مطعم الحاكم كما هو معروف فمما خَبُثَ وَنَتِنَ كرَشاوَى النّاس، ولا يأكلُ ذلك ويتدنَّى له إلا الذُّبابُ القذرُ، وما كل هذا التمادي في الظلم، إلا لهدوء وهدأة أصابت النّاس مما جعلت الحاكم يجرؤ حتى استذأب واستضغم عليهم فصار وحشًا كاسرًا..، وكل هذا ليس من شجاعة ورباطة جأش، وإنما شجّعهم في هذا التمادي ذلُّ وخضوعُ وإذعانُ الناس واستسلامُهم. ثم أردف بالنداء بداع الأخوة أَيضًا، والتكرار من أفضل سبل الإقناع، وأقوى الوسائل لتركيز الرأي، والعقيدة في النفس البشرية، ولهذا نرى في عصرنا الحاضر أصحاب الدعايات يعمدون إلى التكرار في دعاياتهم، من أجل الوصول إلى هدفهم المُبتَغى تطبيقًا لما يقوله علماء النفس: إنه متى كَثُر تكرار أمرًا تولَّد عنه تيار فكري وعاطفي يتلوه ذلك المؤثر العظيم في الأفراد والجماعات وهو “العدوى”، إذ لا يكفي تحويل الانفعال إلى عاطفة أن يحدث مرة واحدة فقط، ولكنه لابد لحصوله أن يتكرر حدوثه، فالتكرار -إذن- هو السبيل لربط الانفعال به، وتركزه حوله، إلى جانب ما يثيره من انفعالات أخرى، تدخل في تركيب العاطفة، وأن عاطفة قوية لكافية لتحديد نشاط الفرد واتجاهه في الحياة، “ولا شك أن تكرار القول لا يقل تأثيرًا في إثارة الانفعال وتكوين العواطف من تكرار الفعل، بل إن التكرار في القول مما يدفع إلى مباشرة الفعل؛ وعلى سبيل ذلك قال:
أخـي نـحن شعبٌ أفاقت مُناه**وأفــكـارهُ فــي الـكـرى تـحـلمُ
ودولــتُـنـا كُــــلُّ مــــا عِـنـدهـا**يـــدٌ تـجـتني وحَـشـاً يـهـضمُ
وغــيـدٌ بـغـايـا لـبـسن الـنِـضار**كـما يـشتهي الـجيد والـمعصمُ
وسـيـفٌ أثـيـمٌ يَـحِزّ الـرؤوس**وقـــيـــدٌ ومــعـتـقـلٌ مُــظــلـمُ
وطُـغيانُها يـلتوى فـي الخِداع**كـما يـلتوي في الدُجى الأرقمُ
وكــم تـدّعـي عِـفّـةً والـوجـود**بــأصـنـافِ خِـسّـتـهـا مُــفـعـمُ!
وآثـامـهـا لـــم تـسـعْها اللُّـغات**ولـــم يــحـوِ تـصـويرها مُـلـهمُ
أنـــا لـــم أقـــل كُـــلّ أوزارهــا**تَــنَــزّهَ قــولــي وعـــفّ الــفـمُ
تــراهـا تـصـولُ عـلـى ضـعـفنا**وفـــــــوق مــآتِــمُـنـا تــبــســمُ
وتُـشـعِـرنـا بــهـديـر الــطـبـول**عــلـى أنّــهـا لــم تــزل تـحـكمُ
وتـظـلـم شـعـبـاً عــلـى عِـلـمـهِ**ويُــغــضـبـهـا أنّـــــــه يَــعــلــمُ
وهـل تـختفي عـنه وهي التي**بـــأكــبــادِ أُمّــــتـــه تــــولِـــمُ؟
وأشــــرفُ أشــرافِـهـا ســــارقٌ**وأفــضـلـهـم قـــاتــلٌ مُــجــرمُ
عـبـيدُ الـهوى يـحكمون الـبلاد**ويـحـكُـمُـهـم كُــلّــهـم دِرهــــمُ
وتـقـتـادهـم شَــهــوةٌ لا تــنـام**وهُــــم فـــي جـهَـالـتِهم نُـــوّمُ
فــفــي كُــــلّ نــاحـيـةٍ ظــالـمٌ**غــــبـــيٌّ يُــســلّــطُـهُ أظـــلـــمُ
أيــا مـن شـبِعتُم عـلى جـوعنا**وجــوعُ بَـنِينَا..ألـم تـتخموا؟
ألــم تـفهموا غـضبةَ الـكادحين**عـلى الـظُلم؟ لا بدّ أن تفهموا؟
كرر الشاعر النداء قصد استنهاض همم الناس في المجتمع لتلبية النداء وإغاثة الملهوف بداع رابط الأخوة التي هي أعظم روابط المجتمع المسلم مع ما فيها من روابط اجتماعية وأسرية تشد أواصر المجتمعات، ثم أخبر بأنا شعب قد أفاقت مناه، فهو يسمع ويرى ويفكر ويحلم برؤى جديدة لتحقيقها في المستقبل، في مقابل دولة جباية ظالمة، يرزح تحت وطأتها- لا هم لها إلا البطش بما في أيدي الناس من أرزاق ومحاصيل تحصلوا عليه بعرق جبينهم وكدِّ سواعدهم النحيلة، كما تتمتع هذه الدولة بأسراب من غيد النساء، لبسن نضار الحلي وتجملن بأحسن زينة لإشباع هوى الحاكم، أما أبناء الشعب فليس لهم إلا السيف الآثم الذي يحتز الرؤوس بلا جريرة، وتقيّد فيه الأيادي بلا كبيرة، حتى صار ظلمها وطغيانها في كل زِقٍّ بالخداع يتلوى في ليالي الأزقة مثل الحية الرقطاء، مع ادعائها العفة والنزاهة، والوجود شاهد على خساستها المفعمة وسفاهة تعاملها الفجة، حتى لا يسع اللغات أن تحمل دلالات أفعالها، ومعاناة الشعب منها، ولا قدرة لأي مصور في استلهام رسم وتوضيح هذه المظالم القبيحة، وهذا الشِّعرُ والبيانُ في تعاملها، لم يقل ولم ينقل شيئًا من فسادها؛ تعالى عنها وعزَّ فمُ الشّاعرِ عن أن يلوك شيئًا منها، إلا ما نرى من صولاتها وجولاتها على ضعفٍ من الناس، وهي تضحك كامرأةٍ “عبشمية”، لتشعر الناس أنها مُحكِمةُ القبضة عليهم؛ وحكمها نافذ على ظلمه، وعلم الشعب به، وما يغضبها هو علم الشعب بكل هذه الممارسات، وهل يخفى عليه حرق أكباده وأجزائه يوما بعد يوم وإيلامها له في كل مفاصل الحياة ومتطلباتها، فأشرف أشرافهم سارق، وأفضلهم قاتل لا يرعى إِلّاً ولا ذِمَّةً. فهم عبيد هواهم وأذيال الحاكمين الأُصلاءِ يسوقهم الدّينارُ والدِّرهمُ، بحفنة من دراهم معدودة يقتادهم حيث يشاء.
وفي الأخير وبعد كل هذه الإتاوات والسلب والنهب والظلم الجائر أخذ يتساءل الشاعر: أَيا مَن شَبِعتُم على جوعنا؛ وجوعِ بنينا ألم تُتخَموا؟! هلَّا شَبِعتُم هَلَّا ارتويتُم؟ هَلَّا تركتُم الشَّعبَ يقتات النَّزرَ القليلِ من حقه ومستحقه، ألــم تـفهموا غـضبةَ الـكادحين عـلى الـظُلم؟ لا بدّ أن تفهموا؟ ألم تفهموا أن لهذا الشعب غضبةً على ظالمه فلا بد أن تفهموا يومًا بأن الظلم مرتعه وخيم..
تعليقات