سوسيولوجيا الخبرة والخبراء 5: الهوية العلمية والإيديولوجية للبرامج التدخلية في المؤسسات الدولية “البنك الدولي نموذجا” (الجزء2)

قئة المقال:دراسات وأبحاث
  1. الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والبنك الدولي: محاولة لفهم السلوك البشري

    لقد كانت الغاية من الصفحات السابقة هي عرض أبرز المحطات التي تسلل خلالها السوسيولوجيين الأنثروبولوجيين داخل مؤسسة مالية دولية، ومن تم الصفحات المقبلة محاولة للكشف عن الكيفية التي تسلل بها هذه المرة التحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي داخل هذه القلعة العتيدة، ومن خلال قضايا جوهرية تهم الإنسان، كالهوية ودورها في عملية الإدماج في التنمية وكذا اتخاذ القرار.

  1. الأنثروبولوجيا والبنك: هل يمكن تسليع الثقافة؟

    يعتبر الأنثروبولوجيين أن الإنسان كائن ثقافي[1]، فهو منتج ومنتج للثقافة، وبالتالي فإن كل مسعى لتحقيق التنمية ينبغي أن يستحضر هذا المعطى، فالسياسات التنموية يجب أن تراعي أثناء تدخلاتها ومخططاتها هذا البعد الإنساني. وهنا لابد من الإعتراف الصريح بالمعايير الثقافية.

لقد بدأ الفكر الاقتصادي يولي أهمية متزايدة لهذا البعد، ناهيك عن لغة التشكيك التي بدأت تسود في العديد

من مبادئ الاقتصاد. فأثناء عمليات البحث، تم العثور على دراسة نشرها البنك الدولي[2]، وهي عبارة عن مجموعة من المقالات تحاول أن تربط بين الثقافة والأنشطة الإقتصادية، وهي اختبار لمدى إمكانية دمج العلوم الإجتماعية في مقاربة تحليلية موحدة. فهذه الدراسة تحتاج لوحدها إلى وقفات لأهميتها الكبيرة، لكن هل يمكن أن يستفيد السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين من هذا الوضع دون وعي بعلم الإقتصاد وتطوراته الحالية؟

تعرض هذه الدراسة عددًا من الحالات الملموسة التي توضح أن هناك طرقا عديدة تمكن من النظر في مدى عقلانية السلوك الإنساني وعلاقته بنمو الأرباح وتحقيق المنفعة، وتنظر أيضا في مدى قدرة الفاعل الاجتماعي على القيام بتغيير نموذجه الاجتماعي ونموذجه للقيم الجماعية. من هنا أيضا وحسب مايكل سيرنيا، حاول خبير البنك الدولي د إسماعيل سراج الدين[3] تطوير برنامج للأبحاث التطبيقية تجمع الاقتصاديين والأنثروبولوجيين والخبراء في العلوم السياسية، ويمكن هذا البرنامج من تحليل الرأسمال الاجتماعي وطرق جمع البيانات، ودمج المناهج الإقتصادية وغير الإقتصادية من أجل تحليل ظاهرة الفقر.

إن التحولات التي يعرفها البنك في استراتيجياته التنموية انطلقت من سؤال مهم جدا، هذا السؤال أثار اهتمام الأنثروبولوجيين[4]في البنك، ومفاده، هل من الممكن استثمار الموارد المالية في القطاع الثقافي نفسه؟ وهل من الممكن الاستثمار في مشاريع الحماية للتراث الثقافي؟

لقد شكل السؤالين معا موضوعا لنقاش كبير، فبعد عقود من الزمن كان النقاش داخل المكاتب المركزية للبنك تهيمن فيه المفاهيم الإقتصادية والمعطيات الكمية، وربط التنمية بالنمو الإقتصادي، غير أن سكة هذا النقاش ستعرف تغيرا، وبدأت وجهات النظر المقدمة من الخبراء تعرف سجالا حادا تعارضت فيه وجهات نظر السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين من جهة مع وجهة نظر الاقتصاديين من جهة أخرى. فجوهر الخلاف بين الفريقين هو التساؤل حول إمكانية أن تكون “الثقافة سلعة” وموردا إقتصاديا مثل أي شيء آخر. وهي الفرضية التي يدافع عنها بعض الخبراء داخل البنك، على اعتبار أن التراث الثقافي هو مجموعة متنوعة من القيم الثقافية أو المعنوية أو الروحية أو السياسية أو الإقتصادية، فهذا كاف لاعتبارها مجالا قابلا للاستثمار، سواء من أجل تحقيق الأهداف الإنمائية الوطنية، أو من أجل الحفاظ على القيم الإنسانية.

إن النقاش حول هذه النقطة لايزال مستمرا في البنك، وتجدر الإشارة إلى أن هناك دراسة أنثروبولوجية[5] مفصلة عن التراث الثقافي أجراها القسم الإقليمي للبنك الذي يغطي شمال إفريقيا والشرق الأوسط[6]. هذه الدراسة ستجرى لأول مرة بمشاركة منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم “اليونسكو”، لكن هذه الدراسة ستلقى معارضة داخل البنك وهي معارضة في الأصل للمنظور الأنثروبولوجي للتراث، لكن ومع ذلك فقد تقدمت خطوات إلى الأمام في “قلعة الإقتصاديين”، حيث نجحت في الضغط على البنك من أجل الحفاظ على التراث الثقافي على الأقل ولو في نطاق ضيق. حيث بدأ التخطيط لمشاريع تدمج البعد الثقافي في عملية التنمية، وكذا الإشراف على تنفيذها في أرض الواقع، ففي منطقة الشرق الوسط وإفريقيا الغنية بالتعدد الثقافي، كان هناك مشروع[7]خصصت له تكلفة إجمالية مقدرة ب: 61,89 مليون دولار أمريكي، وقد اهتم بزيادة فرص العمل المحلية المرتبطة بالسياحة والتراث، بالإضافة إلى زيادة عدد الأفراد العاملين في قطاع الثقافة والسياحة والأعمال التجارية المحلية ذات الصلة بالتراث.

  1. هوية الأفراد المركبة وتأثيرها على عملية اتخاذ القرار

لقد تطور النقاش داخل دائرة خبراء البنك الدولي، ليتناول قضايا لم يكن ممكنا طرحها من قبل لولا ذلك التسرب داخل قلعة الإقتصاديين، فقد أصبح البنك يهتم بعملية اتخاذ القرار بالنسبة للأفراد، لما لها من علاقة مباشرة بالإستجابة لمشاريع التنمية والبرامج التدخلية، والتي غالبا ما تنتهي بالفشل نظرا لوجود عائق أساسي، فهم الخبراء داخل البنك وبعد عقود من الخلافات بينهم، أنه غير مرتبط بالبعد الاقتصادي بل بالبعد الثقافي والإجتماعي والنفسي. فالطبيعة المركبة لهوية الفرد هي ما سيكون موضوع نقاش بين كبار خبراء البنك.

إن الفرد يكتسب ملامح شخصيته النفسية والإجتماعية والذهنية نتيجة احتكاكه بالعالم الخارجي واكتسابه للغة، وهو ما يجعل منه موضوعا بالنسبة للعلوم الإنسانية[8]، في مقابل التصورات الفلسفية خاصة الكلاسيكية منها، التي تنظر إليه كذات مستقلة تملك إرادتها الحرة. غير أن النقاش حول مسألة هوية الفرد\الشخص[9] لاينحصر داخل دائرة المهتمين بالفلسفة والعلوم الإنسانية، بل يمتد إلى مجالات قد تبدو بعيدة ظاهريا عن هذه المسألة، فالمؤسسات السياسية والقانونية تهتم هي أيضا إلى حد بعيد بالهوية، بسبب ما يترتب عنها من صراعات وتوترات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع الواحد، نظرا للإختلاف في اللغة، العرق، الدين وأنماط العيش، إلخ. من هذا المنطلق يرى البنك الدولي أن لهذه القضايا دور مهم ومؤثر على مشاريع التنمية. فهناك عدة مستويات يمكن من خلالها تناول تناول قضية الهوية حسب خبراء البنك، مستوى قانوني إداري[10]، ومستوى (عرقي، جنسي، عقدي) وما يخفيه من خلاف وتضاد مع الآخر ومن نزعات شوفينية تدفع نحو التمييز والكراهية، ومستوى رقمي وبنكي، إلخ. وبالرغم من أهمية هذه المجالات، إلا أن هناك مستوى آخر له علاقة مباشرة بطبيعة الصراع المعرفي داخل البنك الدولي بين خبراءه الإقتصاديين والآخرين المنتمين للعلوم الإنسانية. فالبنك الدولي ينوع الدراسات والخبرات والمسوح في كل المستويات، للتحقق من العوائق الحقيقية التي تقف أمام عملية التنمية. ومن أبرز هذه القضايا طبيعة الفرد المركبة التي يتداخل فيها الثقافي والإجتماعي والنفسي وأثر ذلك كله على عملية الإنخراط في -أو النفور من-مشاريع التنمية.

يلاحظ القارئ إذن أن كبار خبراء البنك يستعملون مفهوم الفرد بدل الشخص، لكن هذا الإستعمال ليس معناه أن المؤسسة “إنسانية”، بل هي ربحية ارتبط وجودها بالنظرية الليبرالية الجديدة، حيث يتم الإنتصار لقيم الفردانية التي تغذي الثورة على الهوية، والتي تعتبر في تصور العلوم الإنسانية بنية مركبة يتداخل فيها النفسي والإجتماعي والثقافي.

ينبغي التأكيد إذن على أن هوية الأفراد تتشكل انطلاقا من التداخل المتعدد بين السمات الجوهرية[11] والخصائص النفسية، الثقافية والإجتماعية. هذا، وإذا كانت دراسات الخبرة داخل مؤسسة البنك الدولي تتطلب من السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين أن يكونوا قناة تصرف ما هو نظري نحو ما هو واقعي، من خلال رسم واقع جديد يقف على أسس تحليلية الغاية منه فهم الكيفية التي يتخذ بها الأفراد قراراتهم. فإن هذا المطلب لا يتحقق دون وعي أولا بالطابع الهوياتي المركب للأفراد، أي بواقعهم الاجتماعي والثقافي والنفسي، وكذا وضعياتهم الذهنية، وهو ما يؤثر حتما على طريقة اتخاذهم للقرار. ولهذا فالبنك الدولي يعبر في تقارير عديدة عن وعي بهذا الواقع المركب، فرغم وجود ما يعتبره البنك حوافز إقتصادية\قروض للمجتمعات غير أن هذه الأخيرة غير قادرة على الاستفادة منها بشكل كامل. ولذلك يدعو خبراء البنك تجاوز التحليلات الإقتصادية، والإعتماد على “تحليل أوسع يدمج الأبعاد الإجتماعية والسياسية والمؤسسية… وهناك إطار مناسب يربط كل هذه الأبعاد وهو البعد الثقافي”[12].

لقد بدأ التحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي يتعمق ويأخذ مساحة مهمة في تقارير البنك بإزاء العلوم الإقتصادية والقانونية، فلم يعد حضور علماء الإجتماع في البنك مجرد حضور تراتبي، أو مؤثث للمشهد العام للمؤسسة، بل بدأت تلك الأفكار التي تحدث عنها “مايكل سيرنيا” و”إسماعيل سراج الدين” تظهر في صياغة التقارير الأخيرة للبنك، خاصة مع صعود أحد الأنثروبولوجيين إلى أعلى قمة تراتبيته، وهو الرئيس الثاني عشر للبنك جيم يونغ كيم. ففي تقرير التنمية لسنة 2015[13]، سيتم إبراز أن صانعي السياسات يركزون عادة على المخاطر الأكثر بروزا من الناحية الإجتماعية، غير أن هذا التقرير البنك ستتحدد رسالته الرئيسية في محاولة فهم السلوك البشري، ذلك ان الكثير من الإقتصاديين والممارسين يظنون أن “العناصر غير العقلانية” لاتخاذ القرار غامضة وتستعصي على الفهم، أو أن بعضها يلغي البعض الآخر عندما تتداخل الأعداد الكبيرة للناس، مثلما يحدث في الأسواق.

  1. تحديد السمات الأساسية للأفراد لتحسين الإجراءات التدخلية

إذا كانت هوية الفرد عند علماء الاجتماع الكلاسيكيين تتأسس بناء على شروطه الاجتماعية، (أسرة، شارع، مدرسة، نادي، فقر، غنى…)، فإن خبراء البنك سيذهبون في مسألة الهوية الاجتماعية للأفراد وتأثيرها على اتخاذ القرار إلى أبعد مدى، وذلك من خلال تفعيل المبادئ المستمدة من الدراسات السوسيولوجية السابقة، حيث ترى “كارلا هوف”(Karla Hoff )[14]، أنه “من المؤشرات المهمة في البحوث الحديثة أن الفقر مثلا “ضريبة معرفية”[15]، ويمكن تصميم السياسة المتعلقة بالفقراء للحد من بعض مؤثرات الفقر التي تضر القدرة على الاختيار والتخطيط للمستقبل. وقد حاولت “كارلا” أن تعطي مثالا توضح من خلاله كيف يؤثر الفقر على الإختيار، أي كيف يؤثر الوضع الاجتماعي في عملية اتخاذ القرار، “ففي حالة مزارعي قصب السكر بالهند، مثلا، الذين طلب منهم المشاركة في سلسلة من الاختبارات المعرفية قبل تلقي دخلهم من المحصول وبعده، كان أداؤهم أفضل بعد الحصاد مما كانوا عليه قبله، نحو 10 نقاط على مؤشر الذكاء، وتبين أن ذلك له علاقة مباشرة بندرة الموارد أو وفرتها”[16]. وبناء عليه يدعو البنك صانعي السياسات إلى إبعاد عملية اتخاذ القرارات الحيوية في الفترات التي تندر فيها الموارد. ومن الأمثلة التي يقدمها البنك في هذا الإطار، أن تحديد موعد لعملية التسجيل بالمدارس مثلا، ينبغي أن تكون في فترات ارتفاع الدخل الموسمي للمزارعين. حيث أجريت تجربة في كولومبيا، فارتفع مؤشر التمدرس بسبب المساعدات النقدية التي قدمت دفعة واحدة مع فترة التسجيل بالمدارس.

ويعمق الرئيس السابق لمجموعة البنك الدولي “جيم يونغ كيم” بدوره في هذا الوعي بالطريقة التي يفكر بها الناس ويحددون اختياراتهم، فيقول: ” إن تعميق فهمنا لكيفية تفكير البشر يضمن لنا تحسين استجاباتنا الآن ومستقبلا، سواء في التعامل مع وباء أو في التصدي لتحد عالمي مثل تغير المناخ”.[17]وقد كانت هذه العبارة لرئيس البنك السابق ذي الخلفية الأنثروبولوجية وغيرها القشة التي قصمت ظهر العلاقة بينه وبين الرئيس الجديد للولايات المتحدة دونالد ترامب، حيث تعددت الآراء حول أسباب استقالة “كيم” هل هي ذاتية، بسبب خلفيته الأنثروبولوجية والفلسفية؟ أم بسبب ضغوطات الرأسمالية المتوحشة؟ أم بسببهما معا؟

لقد أحدث تقرير التنمية لسنة 2015 نقلة نوعية في تحليله للمعطيات، حيث بدت مساهمات الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين واضحة، وبدأ خبراء البنك يقدمون تصاميم مبتكرة للتنمية تراعي سلوك الأفراد وأنماط عيشهم وكذا أعرافهم الإجتماعية. فالتركيز على السمات الأساسية لطبيعة الأفراد وتشخيصها بشكل صحيح يمكن أن يؤدي إلى تحسين الإجراءات التدخلية. وحيث أن افتراضات الخبراء بشأن أسباب السلوك قد تكون خاطئة، فإن فترة التنفيذ يجب أن تسبقها فترة تختبر فيها الإجراءات التدخلية، التي يستند كل منها على افتراضات مختلفة من الإختيارات والسلوكات.

  1. مبادئ اتخاذ القرار حسب أنثروبولوجيي البنك الدولي

سيقدم رئيس البنك الدولي “جيم يونغ كيم” وبخلفيته الأنثروبولوجية رؤيته التحليلية للموضوع معتبرا أن البنك بدأ يدرك الآن أن ما يعتبره الإقتصاديون غامضا ليس صحيحا، إذ أن الإقتصاديين كما رأينا سابقا يعتبرون أن العناصر غير العقلانية في السلوك الإنساني عصية على الفهم، وعليه يقر جيم كيم أن “أحدث ما توصلت إليه البحوث يمضي بنا قدما نحو فهم التأثيرات النفسية والاجتماعية والثقافية لعملية اتخاذ القرار وفهم السلوك البشري، ويظهر أن لها أثرا ملموسا على نتائج التنمية”[18]. وقد قدم التقرير خلاصات للمبادئ الثلاث[19] التي ترتكز عليها عملية اتخاذ القرار البشري وهي:

  • التفكير التلقائي: أي اعتماد الناس على ما يرد في أذهانهم من أول لحظة ودون بذل أي مجهود.
  • التفكير الإجتماعي: أي أن جميع الناس يتسمون بنشاط اجتماعي عميق وكثير منهم سيتعاونون مادام غيرهم يفعلون الشيء نفسه، وهم يتأثرون بالعلاقات والأعراف الاجتماعية.
  • التفكير وفق نماذج ذهنية: ذلك أن معظم الناس لا يخترعون مفاهيم جديدة، بل يستخدمون نماذج ذهنية منبثقة من مجتمعاتهم وتاريخهم المشترك لتفسير تجاربهم.

تؤدي هذه الملاحظات بخبراء البنك إلى إبداع وتصميم برامج تدمج هذه الذهنيات وهذا الواقع الإجتماعي للأفراد، إذ يرى هؤلاء أنه إذا أخذت الحكومات وغيرها من الأطراف الفاعلة ذلك في عين الاعتبار، يمكنها أن تصمم برامج تسهّل للأفراد التعاون في البحث عن أهداف مشتركة. وهنا لا ينبغي تجاهل عوامل عديدة محلية واجتماعية كالأفكار النمطية التي تؤثر على القرارات، وبالتالي تصعب معها عملية التكهن مسبقا بأي الجوانب في تلك الهندسة الإجتماعية والبرامج ستثير اختيارات الناس، وينبغي أن تأخذ الإجراءات التدخلية في اعتبارها هذه المبادئ الثلاثة مع تصميمها بأسلوب التعلم بالممارسة. وفي نفس السياق يؤكد “كوشيك باسو” (Kaushik Basu)، نائب رئيس البنك الدولي والخبير الاقتصادي الأول، أن المسوقون للبضائع وصانعوا السياسات “فهموا منذ زمن طويل دور الحوافز النفسية والاجتماعية في تحريك خيارات الأفراد”[20]. ويستخلص هذا التقرير أدلة علمية جديدة ومتنامية عن هذا الفهم العميق لسلوك البشر كي يتسنى استخدامه في تعزيز التنمية. لذلك يرى “كوشيك باسو” أن السياسات الاقتصادية التقليدية غير فعالة إلا عندما تكون النزعات الإدراكية والأعراف الاجتماعية الصحيحة هي السائدة. فأغلب القراءات لتقارير البنك الدولي تعتقد أن خبراءه تغلب على تحليلاتهم وتقاريرهم لغة اقتصادية محضة، غير أن المتفحص لتلك التقارير، والتي تم تقديم صورة مصغرة عن بعضها، يلمس ذلك العمق الذي يستمد من العلوم الإنسانية قوته وفي مقدمتها علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. فالحجج والنتائج التي قدمت في تقرير 2015 توفر منطقا جديدا للإشتغال بشكل عام. حيث يقدم “نماذج” للحكومات ترشدها للكيفية التي يمكن من خلالها فهم طبيعة السلوك البشري تبعا لهوية الفرد المركبة والعلائقية ومدى تأثيرها على قراراته، وهو ما سيمكنها من مساعدة “المواطنين في التغلب على العقبات النفسية والاجتماعية في اتخاذ القرارات بشكل جيد”[21].

خلاصة:

إن المعرفة السوسيولوجية التي استقدمها علماء الاجتماع إلى البنك الدولي لم تجد أمامها فراغا فكريا، إذ لا يخفى وكما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا، أن عالم الإجتماع اقتحم قلعة استوطنها لفترة طويلة الفكر الاقتصادي والتقني، حيث ترسخت جذور هذا الفكر، والذي لم يكن على دراية بتلك المعرفة السوسيولوجية، لكنه قبل بها أخيرا على مضض، وقد كشف خبراء البنك السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين عن طبيعة العوائق التي تقف أمام التدخلات وبرامج التنمية، ومن بينها طبيعة الأفراد المركبة وتداخل الاجتماعي والنفسي والثقافي في بنية الفرد وتأثيرها على الإندماج في -أو النفور من- تلك المشاريع، ومن تم كان التحليل القائم على العلوم الإنسانية وتحديدا علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ضروريا بالنسبة للبنك لرفع العوائق أمام مشاريع التنمية. وهذا لا يعني أن الحكومات متناغمة مع البنك حول هذه النقطة[22]. فالصراع الفكري والمعرفي بين أقطاب هذه العلوم يقع داخل البنك من خلال مؤسساته المركزية، ويقع خارجه من خلال توجهات الدول العضو في البنك والتي تنعكس على أداء الممثلين داخله. إنه صراع بين النظريات والممارسات التنموية، صراع أفكار وتفسيرات ونماذج. فتحويل وجهة البنك من الإقتصادي إلى الإجتماعي والثقافي ليس أمرا سهلا، ويعتبر محاولة جبارة لتغيير ثقافة البنك، والتي لاتزال حسب مايكل سيرنيا “تمثل إحدى أولويات جدول أعمالنا، إنه شرط لا غنى عنه لتحسين سياسات وبرامج التنمية بشكل مستمر”[23].

  • مصدر المقال: نورالدين لشكر، الهوية الإيديولوجية والمعرفية للبرامج التدخلية للمؤسسات الدولية: البنك الدولي نموذجا، مقال، المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية: قيم، العدد: 2، مكناس، المغرب، 2020.

[1] يمكن هنا استحضار هنا أعمال العديد من الأنثروبولوجيين، ومن بينهم:

  • رالف لينتون، دراسة الإنسان، ترجمة عبد المالك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت، 1964.
  • بروني سلاف مالنوفسكي، الحرية والحضارة، ضمن كتاب الغرائز والمؤسسات، نصوص اختارها وقدمها جيل دولوز، هاشيت، 1953،
  • Bronislaw Malinowski, Une théorie scientifique de la culture, et autres essais, traduit de l’anglais par pierre Clinquartو Éditeur François Maspero, Paris : 1968.

[2] Vijayendra Rao and Michael Walton, Culture and Public Action, Stanford Social Sciences, an imprint of Stanford University Press, Stanford, California, 2004.

[3]– نائب رئيس البنك الدولي سابقا، بدأ حياته كمهندس لكنه تابع دراسته بجامعة هارفارد وحصل على الدكتوراه في موضوع: مساهمة التربية والتعليم في التنمية، كان من المدافعين داخل البنك عن البعد الثقافي والتعددية الثقافية، وتم ترشيحه لرئاسة اليونسكو.

[4] هذا السؤال ورد في مقال مايكل سيرنيا المرجع الأساسي في هذا المقال.

[5]-Ismail Serageldin, June Taboroff, Culture and development in Africa, World Bank, Washington DC, U.S.A, 12948, 1992

[6] ينبغي التذكير هنا ان هذا القسم هو أكبر قسم للبنك في العالم ويغطي دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

[7]– رمز المشروع: P050529، وتم الإنتهاء منه في اخر سنة 2016، المصدر: الموقع الرسمي للبنك، الرابط: https://www.albankaldawli.org/

[8] يقصد هنا تحديدا، علم الإجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس.

[9] ينظر الفلاسفة إلى الإنسان باعتباره شخصا عاقلا واعيا يملك ذاتا حرة ومستقلة، بينما يوظف علماء الاجتماع والأنثروبولوجيين وعلماء النفس مفهوم الفرد في تحليلاتهم على اعتبار أنه جزء من بنية ثقافية واجتماعية أو نفسية.

[10]يقصد بالهوية القانونية\الإدارية حسب البنك (بطائق تعريف، جوازات سفر، عقود ازدياد…)، فحسب مختار ديوب رئيس البنك الدولي لشؤون البنية التحتية فإن “من يحملون إثباتات هوية يتعاملون معها كشيء من المسلّمات. لكن الافتقار إلى إثبات هوية يتمخض عن عوائق للفرد المتضرر والبلد الذي يعيش فيه”، إذ تعتبر الإجابة عن أسئلة مثل: من أنت؟ أين تسكن؟ بوثائق رسمية أمراً ضرورياً للحياة اليومية، وتعبيرا عن الإرتباط بالدولة الحديثة. فحسب البنك الدولي هناك مليار شخص في العالم لا يحملون أي أوراق ثبوتية، وفي الدول منخفضة الدخل نصف النساء لا يملكن إثباتات هوية وطنية أو أي أوراقاً ثبوتية مماثلة، ناهيك عن اللاجئين وعديمي الجنسية وذوي الإعاقة وسكان المناطق الريفية والنائية… وتعتبر الهوية في هذا المستوى من بين أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة -الهدف 16-9: “توفير هوية قانونية للجميع، بما في ذلك تسجيل المواليد” بحلول عام 2030. وللمزيد من التفاصيل أنظر:

  • مبادرة تحديد الهوية من أجل التنمية -مسح المؤشر العالمي للشمول المالي، ID4D-Findex، وثيقة صادرة عن البنك الدولي، 2017
  • الموقع الرسمي للبنك على الأنترنيت على الرابط التالي: (تاريخ الإطلاع: 10\03\2020)

https://www.albankaldawli.org/ar/news/immersive-story/2019/08/14/inclusive-and-trusted-digital-id-can-unlock-opportunities-for-the-worlds-most-vulnerable

[11] السمات الجوهرية مثل: العقل، التفكير، الإرادة، الوعي، الحرية، المسؤولية، إلخ.

[12] – Ismail Serageldin, June Taboroff, Culture and developpement in Africa, O.p

[13]– التقرير الرئيسي لمجموعة البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 2015، العقل والمجتمع والسلوك.

[14]– مديرة مشاركة في تقرير التنمية بالعالم

[15]– اقتصاديات التنمية وسياسات التنمية بحاجة لإعادة صياغة، البنك الدولي، بيان صحفي، بتاريخ: 2014\12\02، رقم: 2015/224/DEC،

[16]– ن. م

[17]– ن. م

[18]– نفس المرجع.

[19]– ن. م.

[20]– ن. م

[21]– “فارون جوري”(Varun Gauri)، أحد المشاركين في تأليف التقرير. وهو كبير الخبراء الاقتصاديين لدى البنك الدولي، عضو في رئاسة وحدة “العقل والسلوك والتنمية”، عضو في هيئات تحرير مجلات السياسة العامة السلوكية والصحة وحقوق الإنسان، وكان عضوًا في مجلس المنتدى الاقتصادي العالمي المعني بالسلوك، ومجلس مركز أبحاث العمل الاقتصادي السلوكي في جامعة تورنتو. حاصل على بكالوريوس من جامعة شيكاغو، ودكتوراه من جامعة برينستون.

[22] يرى مايكل سيرنيا أن العديد من الحكومات لاتزال تعتمد على الإقتصاديين بشكل كلي، ويمكن القول إن هذا الوضع لايزال مهيمنا الى حدود 2005، السنة التي كتب فيها مقاله العلمي، بمعنى أنه قد تكون هناك دول بدأت تستعين بالخبرة السوسيولوجية في تحليلاتها، ولكن لايعني أن حالة القطيعة انتهت بتاتا.

[23] O. p

تعليقات