الفلسفة والعلم .. أو بناء الرؤية العلمية المتفلسفة
قئة المقال: | مقالات |
---|
لم يسجل تاريخ الفكر الفلسفي، خلال الحقب الزمنية الطويلة التي سبقت العصور الحديثة، أي تمييز وانفصال بين الفلسفة وبين المعارف ” العلمية ” السائدة أنداك. والسبب راجع إلى كون الفلسفة كانت تؤدي دور ذلك” العلم ” الذي يكشف عن حقائق الأشياء وماهياتها. فالتعريف المشهور للفلسفة التالي: ” الفلسفة أم العلوم يفيد” أن العلم، قبل أن يشب ويستقل بنفسه، قد ارتبط بالفلسفة ارتباطا عضويا، حيث ترعرع في كنفها حتى بلغ أشده.
لكن مع القرن 17 م سجل هذا التاريخ بداية الانفصال التدريجي لتلك المعارف عن أمها الفلسفة، فاعتبرت الفيزياء، في هذا الإطار، أول تلك المعارف التي حققت هذا الانفصال لأنها اكتسبت القدرة على تبني موضوع ومنهج خاصين بها، والقدرة على انفتاح الظاهرة الطبيعية الفيزيائية على الفكر الرياضي، وأعقبتها بعد ذلك، الكيمياء في القرن 18 م وتلتها في القرن 19 كل من علوم الأحياء والعلوم الإنسانية.
وجراء ذلك الانفصال المشهود، أعفيت الفلسفة من أداء دورها الكلاسيكي (الكشف عن حقائق الأشياء وماهيتها) وأوكلت للاتجاه الفلسفي الوضعي مهمة السهر على تنفيذ إجرائياته، أهمها اعتبار المنهج التأملي الفلسفي عائقا كبيرا أمام تقدم المعارف العلمية، نظرا لمعالجته قضايا ميتافيزيقية خالية من أية قيمة، فضلا عن أنه تعوزه الدقة والصرامة العلميتين في الصياغة اللغوية المنطقية.
لكن الآن، وبعد أن زالت حدة تأثيرات الاتجاه الوضعي وخبت ناره، في عصرنا الحالي، عصر الثورات العلمية وتكنولوجيا الإعلام، وانعكاسات مخرجات العلم السلبية على الإنسان والمجتمع، وعلى البيئة التي تتعرض يوما بعد يوم للهدم وللدمار، حق للفلسفة أن تسترجع أدوارها الطلائعية، وتوقظ في أعماق المعارف العلمية الدافعية نحو التفلسف. فعالمنا ” المتحضر ” أصبح في حاجة ماسة، إلى ابتكارية وإبداعية من نوع خاص تنبع رقراقة من عقل ذي رؤية علمية متفلسفة، لإنقاذه من عقل أداتي لا يعرف سوى المضي قدما بابتكاراته واختراعاته نحو ” مستقبل إنساني ” مجهول وغامض. عقل جعل الإنسانية منذ القرن 19 م تعاني مشاكل حقيقية تجلت في اختلال التوازنات في شتى المستويات القيمية والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والبيئية. فبعد أن كان الإنسان يشكل قيمة القيم، ها هو، في ظل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي، يتخلى عن إنسانيته ويستسلم للقيم السلبية، قيم الاستغلال والتوسع والجشع التي تجعله دائم البحث عن الربح السريع.. لا يطمئن ولا يرتاح لحال ولا يشبع بعد جوع ولا يرتوي بعد ظمأ!!
فهذا الاختلال الذي أحدث هوة فاصلة بين يقينيات العلم و بين التطلعات الإنسانية الداعية إلى تصالح الإنسان مع نفسه أولا و مع الطبيعة ثانيا، قد جعل التصورات العلمية تضفي على نفسها صفة الكمالية و النهائية، الأمر الذي يعتبر مخالفا لمبدأ العلمية الحق: فكل خطاب في العلم هو ظرفي و مؤقت لأنه يبنى و يتجدد دائما باستمرار. فتاريخ العلم لا ينفصل عن المعارف العلمية لأنه تاريخ لأخطائها كما يقول غاستون باشلار.
لقد أخذ عن الفلسفة تعاملها مع قضايا وإشكاليات «ماهوية «، كماهية المادة وماهية العقل وماهية الوجود من حيث معناه ومغزاه … لكن مع مرور الزمن، أثبتت الفلسفة أنها كانت تمشي في الطريق الصحيح، و ليس طريق الابتذال، الذي لا هدف له سوى إنتاج كلام فارغ لا طائل من وراءه، طريق بناء الإنسان المستنير بالرؤية الفلسفية النقدية الأصيلة الكاشفة عن منطق معين معقول يحكم مفارقات حدود الأشياء و الماهيات .
فإذا كان العلم يتناول ما هو كائن في وصفه و تحليله للوقائع ، فإن الفلسفة تتناول ما ينبغي أن يكون و ما ينبغي فعله كالخير و الشر و الصحيح و الخطأ و العدالة و الظلم و الحرية في تعاملها مع قضايا معيارية مرتبطة بالأشياء من حيث هي ذات قيمة أخلاقية أو جمالية أو سياسية أو اجتماعية .
وفي هذا الصدد ، ينبغي الإشارة ، من باب الاعتراف بالفلسفة و روادها ، أنه يرجع الفضل إلى إيمانويل كانط في تبيانه هذا التعارض القائم بين القضايا الفلسفية ذات المنشأ المعياري و القضايا العلمية ذات المنشأ التقريري الوصفي حين أشار إلى التعارض القائم ما بين العقل و الحرية : فالعقل يخضع للحتمية و للضرورة حين يتعامل مع ظواهر الطبيعة ، لأنه ” لا يعقل إلا ما ينتجه هو و وفق خططه الخاصة و أن عليه أن يتقدم بالمبادئ التي تحدد أحكامه وفق قوانين ثابتة ، و عليه أن يرغم الطبيعة على الجواب على أسئلته و يواجهها لكي يتعلم منها لا بوصفه تلميذا متقبلا لكل ما يريده معلمه بل بوصفه قاضيا يحث الشهود على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليهم ” ، لكن حينما يتجاوزها و يدخل المجال الإنساني العملي مجال الأخلاق و القيم الإنسانية فإنه يكون حرا ، أي يكون منفردا. دون غيره من الكائنات الأخرى، بعالم المعنى الذي هو من إبداعه.
واضح من كلام الفيلسوف كانط أن الحرية هي نتاج أفعال الإنسان الذهنية والنفسية المتعارضة مع ما هو طبيعي، ومعنى ذلك، فلسفيا، أن إشكالية الحرية تزداد حدتها والخوض في مختلف ملابساتها، كلما تقدم العلم و قطع أشواطا كبيرة في مساره و طريقه، و ازدادت قوته الضاغظة و أصبحت لديه القدرة على التأثير السلبي في مجريات حياة الإنسان الأخلاقية و القيمية.
فمثل هذا الأمر، سوف لن يجعل من ” أم العلوم ” مكتوفة الأيدي، بل سيدفعها، تحت فرع تابع لها يسمى ب ” الإبستمولوجيا ” إلى صياغة تساؤلات جديدة لاقتفاء أثر متغيرات العلم الطبيعي وانعكاساتها العميقة على الإنسان وقيمه التي تعتبر الحرية أسماها.. وهذا يوضح بجلاء، أنه كلما تغير تصور العلم للواقع على مر الأزمان فإن طبيعة المشكلات الفلسفية تتغير بدورها. فالفلسفة بهذا المعنى هي مجال معرفي يعالج أسئلة / قضايا غير متجانسة لم يستطيع العلم الإجابة عنها ، كما يعالج أيضا أخرى تتعلق بأسباب عدم قدرته الإجابة عنها .
تسعى” الإبستمولوجيا ” سعيا حثيثا إلى تفكيك الخطاب الفلسفي الوضعي والتخلص من إرثه الثقيل، في أفق ردم الهوة التي أقامها ما بين العلم والفلسفة، وذلك انطلاقا من خلق جملة توافقات ما بينهما، بعد أن اتضح للعلماء المتخصصين، أن العلم لا يستطيع أن يتقدم وأن يتطور أو يطور من آليات اشتغاله إلا بالتعمق في الأسس الفلسفية لمعارفه ومخترعاته و إبداعاته. فقد أصبح من الضروري الاهتمام بالفلسفة لتوسيع ما بات يعرف الآن بمجال ” الرؤية العلمية المتفلسفة ” ، تلك الرؤية الجديدة و المتجددة التي جعلت من العقل البشري كيف يتجاوز كما يقول غاستون باشلار، عوائقته الإبيستمولوجية و ينتقل ، في مجال علمي كالفلك ، من التصورات البطليموسية إلى التصورات الكوبرنيكية ، و في مجال كمجال الهندسة ، من الهندسة الإقليدية إلى الهندسات اللاأقليدية مع لوباتشيفسكي و ريمان و في مجال كمجال الفيزياء من الميكانيكا النيوترونين إلى الميكانيكا النسبية و الفضاء المنحني و الرباعي الأبعاد . فهذه التصورات الجديدة التي شهدها الإنسان عبر تاريخ العلم لا تستطيع أن تحدث تغييرا جذريا في طريقة رؤيتنا للأشياء وللكون لولا الفلسفة وطبيعتها ذات الرؤية التأملية التجديدية.
فبعد أن أثبتت الفلسفة نجاعتها وحسن تدبيرها، في حوارها المفتوح مع القضايا العلم الطبيعي والإنساني عبر إثباتها لقيم الإنسان الكبرى، أفلا ينبغي لها فعل نفس الشيء مع قضايانا المصيرية نحن العرب والمسلمون؟؟
فما أحوج الإنسان العربي إلى استلهام القيم الإيجابية لكل من العلم و الفلسفة من أجل إصلاح مجتمعاتنا العربية و الإسلامية ، التي ما تزال ، في نظر الجابري ، متخلفة عن ركب الفكر العلمي على المستويين التكنولوجي و الفكري .فالدراسات الفلسفية لا تزال أسيرة الميتافيزيقا، بعيدة كل البعد عن قضايا المعارف العلمية و التكنولوجية و قد انعكس ذلك سلبا ، حسب رأيه ، على الوضع الثقافي العربي العام الذي لا يساعد على ما يسميه ب ” تحديث العقل العربي ” أو ” تجديد الذهنية العربية ” التي تتآكل و تندثر، يوم بعد يوم ، في أيامه العصيبة هذه .
تعليقات